العرف كمصدر لتجريم في القانون الجنائي الدولي

















العرف كمصدر لتجريم


في القانون الجنائي الدولي










يتناول هذا البحث دور العرف في توصيف أركان الجرائم ودوره في تحديد العقوبات المقررة لها ثم موقف الفقه من هذا الدور وعليه سيكون هذا المبحث بثلاثة مطالب هي :-






المطلب الأول : دور العرف في توصيف أركان الجرائم






المطلب الثاني : دور العرف في توصيف العقوبات






المطلب الثالث : موقف الفقه والقضاء من العرف كمصدر للتجريم










المطلب الاول دور العرف في توصيف أركان الجريمة






يعود الاعتماد على العرف كمصدر من مصادر القانون الجنائي الدولي إلى عام 1948 وذلك في مشروع الاتفاقية المنشئة لمحكمة جنائية دولية حيث وضعت هذه الاتفاقية العرف على رأس قواعد القانون التي يمكن أن يطبقها القضاء الجنائي الدولي إلى أن يعتمد في حينها اتفاقية تحدد المبادئ الكبرى للقانون الجنائي الدولي وتصنف الجرائم وتسن العقوبات وكان العرف قد ظهر قبل هذا التاريخ في مشروع وضعته رابطة القانون الدولي كمشروع نظام أساسي للمحكمة الجنائية الدولية سنة 1926 وكان ينصص على أن العرف الدولي برهان على عرف عام مقبول له قوة القانون ثم عادت الرابطة عام 1984 في مشروع أخر وضعته بهذا الصدد لتنصص في المادة 22 منه على (( تأخذ المحكمة بتعريف جريمة محددة على النحو المنصوص عليه في الاتفاقيات السارية في الدول المتعاقدة المعنية ، وتطبق المحكمة القانون الدولي بما في ذلك المبادئ العامة للقانون التي تعترف بها الدول )) .[i]










أما وعلى الصعيد الفقهي فقد سبق للوترباخت منذ عام 1944 أن ذهب إلى تقرير وجوب التفرقة بين مخالفات قوانين الحرب وجرائم الحرب مقترحا تعريفا لجرائم الحرب يستند إلى أنها انتهاك لقواعد أساسية مقبولة أو على أساس أنها انتهاك لمبادئ القانون الجنائي مما يوجب تغلبه الطابع العرفي لقواعد هذا القانون على قواعده المكتوبة وقد ذهبت الدائرة الإستئنافية للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في حكمها في قضية تاديش Tadic إلى ضرورة توافر الشروط التالية في الجريمة حتى يمكن أن تكون محلا للاتهام طبقا للمادة الثالثة من نظام المحكمة ( انتهاكات قوانين وأعراف الحرب ) :










أ ـ يجب أن ينطوي الانتهاك على خرق لقاعدة من قواعد القانون الدولي الإنساني .










ب ـ يجب إن تكون القاعدة العرفية عرفية بطبيعتها فإذا كانت جزءا من القانون ألتعاهدي فيجب توافر الشروط اللازمة في هذا الشأن






ج- يجب إن يكون الانتهاك خطير بمعنى إن يشكل خرقا لقاعدة تحمي قيما هامة كما يجب إن يكون الخرق مؤديا إلى نتائج خطيرة بالنسبة للضحية .






د- يجب إن يكون انتهاك القاعدة مؤديا في ضوء القانون العرفي والاتفاق إلى ترتيب المسؤولية الجنائية الفردية بالنسبة للشخص المنسوب إليه الفعل وبناء على ذلك يمكن القول :-














1- إن كل انتهاك لقواعد قوانين وأعراف الحرب في قواعد القانون الدولي الإنساني يعد جريمة حرب .


2- إن جرائم الحرب ليست محصورة بعدد معين بذاته من الجرائم لان كل انتهاك لقواعد القانون الدولي الإنساني يعد جريمة .


3- انه إذا كان القانون الدولي الإنساني لازال يعرف التفرقة بين النزاع المسلح الدولي والنزاع المسلح الغير دولي فان جرائم الحرب يمكن إن تقع في إطار كلا النوعين من النزاعات المسلحة .






4-إن تحديد قاعدة القانون الدولي الإنساني التي جرى انتهاكها أمر مهم ولازام لتوفر ركن أساسي في جريمة الحرب فإذا كانت هذه القاعدة قاعة عرفية فليست هناك مشكلة من أي نوع إما إذا كانت القاعدة تنتمي إلى القانون المكتوب فهنا يتعين إن تتوافر شروط الالتزام بالقاعدة بالنسبة للدول الإطراف فيها . مع ملاحظة إن القواعد الواردة في اتفاقية لاهاي تعد جميعا من القانون العرفي حسبما انتهت إليه محكمة نورمبرغ, كما إن الفقه الدولي المعاصر مستقر على اعتبار اتفاقيات لعام 1949 بكاملها قانون عرفي إما البروتوكولان الإضافيان لسنة 1977 فان جانب من الفقه لازال يشكك في طابعهما العرفي .










5- إن القانون الدولي الإنساني لا يضع عقوبة لكل جريمة حرب وإنما يترك هذه المهمة لتشريعات الدول المختلفة في إطار مسئوليتها بالعمل على قمع انتهاكات القانون الدولي الإنساني والعقاب عليها .[ii]










إن العمل بشأن توصيف أركان الجرائم يستند إلى ما أوردته المادة 9 من النظام الأساسي والتي تنصص على إن تحديد أركان الجرائم سيساعد المحكمة في تفسير وتطبيق المواد 6 ( الإبادة الجماعية ) والمادة 7 ( الجرائم ضد الإنسانية ) والمادة 8 ( جرائم الحرب ) وهو ما يوضح إن وثيقة أركان الجرائم سيتم استخدامها كأداة مساعدة للتفسير ولن تكون ملزمة للقضاة مع العلم بان تلك الوثيقة يجب إن تكون متسقة مع النظام الأساسي .


















وقد تركزت مفوضات مجموعة العمل الدولية بالذات على وثيقة شاملة قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية ومقترحات مشتركة من جانب سويسرا والمجر وكوستاريكا ووثائق أخرى قدمتها الوفود اليابانية والاسبانية والكولومبية . وقد أعدت اللجنة الدولية للصليب الأحمر دراسة تتصل بكل جرائم الحرب وتم تقديم تلك الدراسة بناء على طلب سبع دول هي ( بلجيكا , كوستاريكا , فنلندا المجر , كوريا الجنوبية , جنوب إفريقيا , وسويسرا ) وقد استندت وثيقة جرائم الحرب المكونة من سبعة أقسام إلى مراجع ذات الصلة بالموضوع وبحث وتحليل مستفيض لأدوات القانون الدولي الإنساني وقانون الدعوى case law المستمد من المحاكمات السابقة الخاصة بجرائم الحرب على المستوى الدولي والقومي مثل محاكمات ليبزغ بعد الحرب العالمية الأولى ومحاكمات نورمبرغ وطوكيو بعد الحرب العالمية الثانية,قوانين الدعوى , قرارات المحاكم الخاصة ad hoc Tribunals بيوغسلافيا السابقة ورواندا واستفادت الوثيقة أيضا من أدوات قانون حقوق الإنسان وقوانين الدعوى الخاصة بلجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان , والمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان , والمحكمة الأمريكية المتبادلة لحقوق الإنسان[iii] وإذا كان من المقرر إن القانون الدولي الجنائي هو فرع من فروع القانون الدولي العام فمن الواجب إن تكون له خصائص هذا الأخير وفي مقدمتها الصفة العرفية لقواعده وتترتب على هذه الصفة العرفية الدولية نتيجتان :-










الأولى – صعوبة التعرف على الجريمة الدولية ذلك إن مثل هذا التعريف إنما يتطلب الاستقراء الدقيق للعرف الدولي وهو أمر تكتنفه صعوبات عديدة , ومع ذلك فانه يجب الاحتكام إلى الأفكار التي يقوم عليها العرف وهي العدالة والأخلاق والصالح الدولي العام وهذه الأفكار هي التي أسبغت صفة الجريمة على حرب الاعتداء وعلى الجرائم ضد الإنسانية .






الثانية- غموض فكرة الجريمة الدولية ويرجع هذا الغموض إلى كونها غير مكتوبة مما يجعل من العسير على القاضي الدولي إن يتحقق من تطابق الفعل المرتكب للنموذج العرفي لتلك الجريمة وحتى على فرض النص عليها ضمن نصوص معاهدة أو اتفاقية دولية , فان مثل هذا النص لا يفعل أكثر من الكشف عن الصفة غير المشروعة للفعل دون تحديد ما ينهض عليه من أركان وعناصر وشروط ولعل تعريف العدوان وما أثاره من خلافات خير شاهد على ذلك .[iv]














المطلب الثاني دور العرف في توصيف العقوبات














وفيما يتعلق بالجزء الأخر من مبدأ الشرعية أي (( لا عقوبة ألا بنص )) فأن المبدأ هو ذاته بالنسبة لشرعية العقوبة فلا عقوبة ألا بقاعدة قانونية عقابية أي أن القاعدة الدولية سواء تعلقت بشق التجريم أو العقاب فإنها تجد أساسها في مصادر القانون الدولي الجنائي التي يحتل العرف بينها مكان الصدارة . غير أن العقوبة على الجريمة الدولية تبقى مع ذلك غامضة فالأمر يقف عند تقرير الصفة الإجرامية دون تحديد العقوبة على نحو حاسم كما هو الحال في القانون الداخلي على أن يترك أمر التحديد نوعا وكما أما إلى الدول المعنية التي تضطلع بتشريع الأحكام في قوانينها متضمنة العقوبات المناسبة وأما إلى القضاء الجنائي وقد أخذت الاتفاقيات الدولية بالمنهج الأول بينما أخذت بالمنهج الثاني المواثيق الخاصة لمحاكمات الحرب العالمية الثانية فالمادة 27 من نظام المحكمة نورمبرغ المشار إليها سابقا تنصص على أن المحكمة تستطيع أن تقضي بمعاقبة المتهمين الذين يتوفر لديهم الخطأ أما بالإعدام أو بأية عقوبة أخرى تراها مناسبة ، ولكن هذا النص لم يحدد المعيار الذي يتم على ضوئه اختيار تلك العقوبة المناسبة ، ومع ذلك ، فقد كشف التطبيق لعملي لمحاكمات نورمبرغ وطوكيو عن أن المحكمة قد أنزلت عقوبة السجن ببعض المتهمين ، كما إن قانون مجلس الرقابة على المافيا رقم 10 الصادر في 20 كانون الثاني 1945 والذي أشار إليه حكم محكمة نورمبرغ بشأن المنظمات الإرهابية قد نص على أن العقوبات الواجبة التطبيق على أعضاء المنظمات الإرهابية تنحصر في : ـ














1 ـ الإعدام .


2 ـ السجن المؤبد أو المؤقت سواء أكان مقترن بالإشغال الشاقة أم غير مقترن بها .


3 ـ الغرامة والسجن سواء أكان مقترن بالعمل أو غير مقترن كما في حالة دفع الغرامة .






4 ـ مصادرة الأموال ورد ما يتحصل منها بطريقة غير مشروعة .


5 ـ الحرمان من الحقوق المدنية بصفة كلية أو جزئية .










ولعل فكرة الغموض تجد أصولها في أن فكرة الجريمة الدولية لازالت بدورها غامضة ولا تنعم بذلك القدر من التحديد المنضبط الذي يحدد نموذجها القانوني بما يتصف عليه من عناصر أساسية ـ الأركان ـ والتبعية والظروف ـ وتحديد العقوبة الملائمة لكل جان وفقا لمعايير مادية وشخصية ولم يقدم نظام محاكمتي نورمبرغ وطوكيو غير معيار جسامة الجريمة الذي يستطيع القاضي الاستعانة به في تقدير العقوبة المناسبة ومن شأن كل هذا أن يساهم في زيادة الغموض الذي يكتنف مبدأ شرعية العقوبة في مجال القانون الدولي الجنائي ويزداد هذا الغموض أذا خلت الاتفاقيات الدولية تماما حتى من النص على أنواع العقوبات التي يمكن اللجوء إليها وهو ما وقعت فيه اتفاقية إبادة الجنس البشري حيث تعدد في مادتها الرابعة الأشخاص الذين يمكن أن يرتكبوا الجرائم دون أن تحدد العقوبات التي يمكن توقعيها عليهم .[v]














لقد لجأت المحكمة الجنائية الخاصة في يوغسلافيا السابقة إلى المبادئ العامة للقانون لتعزيز ما توصلت إليه في بحثها عن قواعد قابلة للتطبيق على القضية من قواعد القانون الدولي ، ولقد اتسم تعامل المحكمة بمزيد من الحذر خشية الاعتماد على المبادئ العامة المستقاة على صعيد المحاكم الداخلية ولذلك فأنها تلجأ إلى المقارنة والوقوف على الاختلاف بين تلك المبادئ والمبادئ المستقاة على الصعيد الوطني ، ولذلك يمكن القول أن كلا من المحكمة الجنائية السابقة في يوغسلافيا ورواندا لجأت إلى القوانين الوطنية لتأكيد تلك المبادئ وتحديد مبادئ القانون الدولي من خلال تلك المصادر وكما حرصت المحكمة على ذلك في قرارها في قضية فوراندزج , ومع ذلك فأن ما يثير الانتباه في هذا الصدد أن الأمر ليس بالبساطة التي يمكن تصورها في أغلب الأنظمة القانونية في العالم (( فالمحاكم الدولية يجب أن تأخذ بالحسبان المفاهيم العامة والمؤسسات القانونية العامة في جميع الأنظمة القانونية القائمة في العالم )) وعلاقة كل ذلك بالقانون الدولي الجنائي ، فالمبادئ العامة للقانون لا ينطبق عليها وصف التكامل وذلك يرجع إلى طبيعتها وعموميتها وذلك فأنها تصنف بأنها أخر الخيارات أمام المحكمة ، فطالما حرصت المحكمة في مرات عديدة على التأكيد بأن مثل هذه القواعد لم تصل حد من العمومية بجعلها تصل حد القاعدة العامة القابلة للتطبيق . ويذكر انه عند صياغة النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الخاصة بيوغسلافيا السابقة رد الأمين العام للأمم المتحدة بنبرة منفعلة على الانتقادات التي واجهها هذا النظام نتيجة تخليه عن مبدأ الشرعية بالقول (( إن تطبيق مبدأ الشرعية يقضي بان المحاكم الدولية ملزمة بتطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني والتي هي بدون أدنى شك تشكل جزءا من العرف لذلك فالمشكلة التي تثيرها بعض الدول, وليس كلها , حول ضرورة اعتماد اتفاقيات معينة للتجريم ليس لها أساس من الصحة , وان هذا الأمر يحظى بأهمية خاصة في نطاق عمل المحاكم الدولية عند توجيه التهمة لأشخاص ارتكبوا انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني ))[vi] ويرى ستون إن القانون الجنائي الدولي غالبا ما يجد إحكامه ومبادئه في العرف وهذه السمة بالذات هي التي تجعل هذا القانون يشبه القانون العمومي الانكليزي (( Public Law ))[vii] ويتجه جانب من الفقه إلى الاعتراف صراحة للعرف بوصفه مصدرا مباشرا بل في الفترات المبكرة لتطور القانون الجنائي الدولي كان المصدر الأول والوحيد للتجريم خصوصا أذا ما تعلق الأمر بجرائم بعينها مثل جريمة التطهير العرقي [viii] مبررين ذلك بالطبيعة الخاصة لركن الشرعية في القانون الجنائي الدولي وبالقول إن قواعد القانون الجنائي الدولي يغلب عليها الطابع العرفي كما إن عناصر الجريمة غير محددة بطريقة دقيقة ولذلك يصعب الوقوف على الحالة النفسية لفاعلها ولكفالة التطبيق السليم لقواعد القانون الدولي ينبغي اللجوء إلى توافر الاحتمالات أضف إلى ذلك إن الجريمة الدولية تقع مستندة إلى بواعث من نوع خاص وغالبا ما تتم بوحي أو تكليف من الغير فلا يرتكبها الجاني لتحقيق غرض شخصي ولا لحسابه الخاص وهذا ألأمر بحد ذاته كفيل بان يعزز القصد الاحتمالي .[ix]










وتجدر إلا شارة إلى إن واحدة من ألأسس التي اعتمدها الفكر الليبرالي في مساندة مبدأ الشرعية هو عدم الاستناد للعرف كمصدر للتجريم إذ إن الغموض الذي يكتنف القواعد العرفية من شأنه إن يوفر للقاضي سلطة تكاد تكون مطلقة في خلق التجريم وإسناد العقاب[x]














المطلب الثالث موقف الفقه من التجريم استنادا الى العرف














لقد اثار مبدأ الشرعية الكثير من النقاشات في اجتماعات اللجنة التحضيرية وخاصة انه يسير جنبا إلى جنب مع المبدأ القانوني القائل بعدم جواز اعتماد العرف كمصدر للتجريم مما يعني وجوب التنسيق بين مبدأ لا جريمة إلا بنص وفكرة عدم الاعتماد على العرف في إنشاء القاعدة القانونية الدولية وهو الذي يعد احد أهم مصادر القانون الدولي وخاصة انه لم يكن من الممكن للدول المختلفة إن تقبل الانضمام للنظام الأساسي للمحكمة دون إن يتضمن الإشارة إلى مبدأ لا جريمة إلا بنص وما يستتبعه من عدم جواز القياس مخافة إساءة المحكمة للسلطات المناطة بها[xi] وتشير المادة الأولى من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية إلى :










(( تصادق الإطراف المتعاقدة على إن الإبادة الجماعية سواء ارتكبت في أيام السلم أو إثناء الحرب هي جريمة بمقتضى القانون الدولي وتتعهد بمنعها والمعاقبة عليها )) ويبدو من صياغة هذه المادة إن النص الانجليزي استخدم كلمة Confirm بدلا من كلمة تصادق الواردة في النسخة العربية لان الغرض من هذه الاتفاقية كان إقرارا لتلك الجريمة وليس منشئا لها أي إن الإطراف الذين صاغوا هذه الاتفاقية انصرفت إرادتهم إلى تقنين جريمة موجودة بالفعل وهو المنطق الذي يستقيم مع الجهود الدولية التي بذلت بهذا الصدد لتعريف جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها ووفقا لهذا المنظور فأن هذه الجريمة تجد مصدرها في العرف وهو ما يجعل إحكام هذه الاتفاقية ملزمة لجميع الدول حتى التي لم تصادق عليها[xii].










لم يكن القانون الدولي الجنائي القائم ألان وليد النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية بل كان وليد شبكة قضائية مختلفة تعتمد على مصادر متنوعة أكثر من اعتمادها على النظام الأساسي بمفرده لأن هذا الأخير نفسه يشير صراحة إلى القوانين الجنائية الوطنية والنظم الجنائية الداخلية في العالم كما يشير إلى القانون الدولي العام بشكل عام ويفسح المجال إمام المحكمة بأن تمارس وظيفة إنشاء قواعد قانونية جديدة . إن طبيعة اختلاف أجناس مصادر القانون الدولي الجنائي يفتح الباب واسعا إمام الجدل القانوني والبحث والتقصي حيث انعكست النظريات والمفاهيم الحديثة على أنواع القانون الجنائي وشكلت بذلك مقدمة أو فاتحة لهذا الجدل .[xiii]










وبناء على ذلك يمكن إن نحدد الإجابة الصحيحة وهي إن نميز بين مرحلة ما قبل نظام 1998 وما يعد اكتمال هذا النظام فقبل ولادة المحكمة الجنائية الدولية عد العرف كمصدر أساسي لقواعد التجريم والعقاب في النطاق الدولي , وبالتالي احتل مكانة هامة لجهة إصدار القانون الدولي الجنائي فمعظم الجرائم التي تشكلت في هذا الإطار مرجعها العرف ثم اعتمدها المجتمع الدولي في نصوص المعاهدات والمواثيق الدولية كجرائم ماسة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية , لقد أثارت القواعد القانونية المبنية على أساس العرف إشكالات كثيرة من أهمها اعتبار هذه القواعد غير المحددة المعالم والمضمون مما يعني الصعوبة في إثباتها ومن ثم عدم الاعتماد عليها بشكل ثابت وواضح وعادل في تقرير المسؤولية عنها , ورغم هذا الواقع الذي كان سائدا قبل ولادة نظام المحكمة فقد جرى الاجتهاد على التوسع في المحاكم التي تشكلت لهذا الغرض أي إعطاء التفسير المرن لهذا السلوك غير المشروع والذي يمكن إن يكون أكثر عدالة في مجال المحاكمات الدولية [xiv] وقد سبق للجنة القانون الدولي إن رأت عند وضع بنود النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية انه لا بد عند وضع النصوص التي تتعلق بالقانون الواجب التطبيق إن تراعي الطبيعة الخاصة للإجراءات التي تتخذ إمام الهيئة التي هي بلا شك ذات طابع قضائي . فمحاكمة شخص متهم بارتكاب جريمة تدخل في اختصاص مثل تلك المحكمة لا تشكل نزاعا دوليا بين شخصين من أشخاص القانون الدولي العام بل هي بالأحرى إلية دولية لمحاسبة شخص متهم بارتكاب جريمة خطيرة ذات طابع دولي تدخل في اختصاص المحكمة فلن تنشأ محكمة لكي تنظر في مسائل قليلة الأهمية ولا في مسائل تدخل في نطاق الاختصاص ألاستئثاري لأي دولة[xv] .










وعلى العكس من ذلك يذهب اتجاه أخر إلى إن النظام الأساسي لم ينصص على العرف كمصدر من مصادر القانون الجنائي الدولي التي تطبقها المحكمة لأن المحكمة تحكمها قاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص وطبقا لذلك لا يجوز الرجوع إلى العرف الدولي في تحديد الجرائم وفرض العقوبات دون إن يعني ذلك إنكار ما للعرف من دور مهم في تطور القانون الدولي الجنائي ولكن إذا كانت المحكمة لا تطبق العرف فلا يعني ذلك إن العرف فقد موقعه فالدول تحتاج العرف الدولي في علاقاتها الدولية كما إن العرف الدولي المصدر الأساسي الذي تستمد منه المعاهدات الدولية نصوصها [xvi] .










إن نظرة فاحصة للاتجاهات الفقهية التي تحدثت عن العرف الدولي ودوره في التجريم تكشف عن حقيقة اكتشفها هذا الجدل ولم يشخصها تقوم على أساس العلاقة الجوهرية بين كلا من القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني من جهة والقانون الجنائي الدولي من جهة أخرى وهي علاقة متلازمة ومتداخلة حتى إن بعض نصوص النظام الأساسي أقرتها واعترفت بها صراحة إن مثل هذه العلاقة – ووفقا لما تتصف به – هي التي أخرجت مبدأ الشرعية من طابعه الخاص في القوانين الداخلية وأدخلته في إطار القانون الدولي العام وهي التي أباحت - نتيجة لذلك - الركون إلى العرف كمصدر للتجريم فنص المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية والتي حددت على سبيل الحصر مصادر القانون الدولي العام منح العرف الترتيب الثاني من المصادر الرئيسية لهذا القانون بعد المعاهدات الدولية العامة والخاصة وكثيرا ما لجأت محكمة العدل الدولية إلى العرف أو استشهدت به لتعزيز إحكامها , هذا بالنسبة لمكانة العرف في القانون الدولي العام إما بالنسبة لمكانته في القانون الدولي الإنساني فيكفي القول إلى إن الغالبية العظمى من الفقه الدولي التقليدي والمعاصر تذهب إلى إن هذا القانون برمته بدء ولازال قانونا عرفيا وان ما استقر من إحكامه في نصوص دولية أخذت شكل الاتفاقيات الدولية أو بروتوكولات ما هي في الحقيقة إلا تدوين لعرف دولي لا بل إن بعض هذه الاتفاقيات تنصص صراحة على إن نصوصها و إحكامها المكتوبة تشكل جزءا من العرف الدولي رغبة منها في إلزام الدول التي لم تصادق على هذه الاتفاقيات أضف إلى ذلك – وفي علاقة مباشرة أخرى بين القانونين- إن الانتهاكات الجسيمة لقواعد هذا القانون تشكل جرائم دولية تخضع لإحكام النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية وهذه هي صيغة الترابط الثانية بين هذين القانونين هذا إذا ما تجنبنا الخوض في إن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان تشكل هي الأخرى جرائم دولية وإذا ما تجنبنا الخوض أيضا فيما يحتله العرف الدولي في مصادر هذا القانون اتضحت لنا الحقيقة التي تحدثنا عنها في بداية هذه الفقرة وهي إن الترابط والتداخل بين هذه القوانين حتم نتيجة لا مفر منها هي امتداد الدور الذي يؤديه العرف من هذه القوانين إلى القانون الدولي الجنائي إلى الدرجة التي يمكن معها القول إن العرف يؤدي في هذا القانون ما يؤديه من دور في تلك القوانين- إذا ما أخذنا بالحسبان محاكمات نورمبرغ ونصوص النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية- .






















الخاتمة






يتميز ركن الشرعية في القانون الدولي الجنائي بميزة خاصة تجعله لا يتوقف عند حدود النص المكتوب بل يتعداه ليستند إلى كل قاعدة قانونية دولية سواء أكان مصدرها العرف أم مبادئ القانون العامة الأمر الذي يمكن معه القول إن قاعدة (( لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص )) أضحت في القانون الدولي الجنائي تعني (( لا جريمة ولا عقوبة إلا بقاعدة قانونية )) إن هذه الصياغة من شأنها إن تفسر التطور أو التحول الذي طرأ على هذا المبدأ في ظل القانون الدولي الجنائي كما من شأنها إن توضح اتساق مصادر هذا القانون مع مصادر القانون الدولي العام الواردة في المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية .


ليس هناك ثمة شك إن الإقرار بمثل هذا التحول أو التطور في المبدأ ينطوي على خطورة لا تتوقف عند تجريم سلوك معين بل يتعدى ذلك إلى تقدير عقوبات لهذه الجرائم لم يرد نص بشأن تحديدها , وكلا الأمران ينطوي على خطورة بالغة تهدد ضمانات حقوق الإنسان رغم التبريرات التي قيلت بهذا الصدد والتي مردها إن القواعد العرفية لا تختلف بشيء من حيث الإلزام عن قواعد القانون الدولي الأخرى وكذلك إن قواعد القانون الدولي الإنساني والتي يشكل انتهاكها جرائم دولية لازالت قواعد عرفية .


لقد شكل البحث ثلاث حلقات متصلة يمكن القول معها إن كل حلقة أثبتت نتيجة معينة ابتدأت بالمبحث الأول الذي أكد إقرار ركن الشرعية في القانون الدولي ولكن بسمة مميزة مرورا بالمبحث الثاني الذي أكد اثر هذه السمة على المادتين 21 و 22 من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ثم انتهاء بالمبحث الثالث الذي اثبت انه يمكن الاستناد إلى العرف كأساس للتجريم .


إن استعراض المباحث الثلاث التي حفل بها البحث يمكن إن يوصل إلى جملة من الاستنتاجات التي توصل لها البحث :-


1- وجود ترابط بين المادتين 21 و22 من النظام الأساسي حاول جانب من الفقه إن يصوره بصيغة أخرى مثل التعارض أو التسوية أو المرونة ولكن التسمية الأصح هي الترابط , ولكن وعلى الرغم من الإقرار بهذا الترابط فان الصياغة لم تكن موفقة.


2- ندرة المؤلفات التي تحدثت عن هذا الموضوع على الرغم من خطورته .


3- إن السمة المميزة لركن الشرعية قد تكون ناجمة عن محاولة التوفيق بين الفقه اللاتيني والفقه الانكلو سكسوني .


4- إن هناك فرصة لتطبيق السوابق القضائية استنادا لحكم المادة 21 وهذا يكشف عن تناقض أخر مع المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية .


5- إن وصف قاعدة ما بأنها عرفية في إطار القانون الدولي الجنائي لا يعني بالضرورة إن هذه القاعدة غير مدونة فقد تكون القاعدة مدونة ولكن رغبة الدول في إعطائها مزيدا من الإلزام في مواجهة الدول التي لم تصادق عليها .


6- إن نص الفقرة الثالثة من المادة 22 من شانه إن يوسع بشكل مفرط من تجريم السلوك بموجب المواد (( 5, 6 ,7 ,8 )) من النظام الأساسي .


7- إن اعتماد المحاكم الجنائية الدولية للنظام الاختصاصي وليس للنظام ألتحقيقي في توجيه التهمة زاد من حدة الانتقادات الموجهة لتلك المحاكم إذ يتطلب هذا النظام تفحص كافة الأدلة ومناقشتها شفويا في حين يقتصر الأسلوب ألتحقيقي على أدلة مختارة .















[i] ـ د . زياد عيناني ، مصدر سبق ذكره ، ص331 .


[ii] - د. صلاح الدين عامر , المحكمة الجنائية الدولية , إعداد شريف عتلم , ط5 , اللجنة الدولية للصليب الاحمر , جنيف , 2008,ص121-123 . انظر أيضا .


- د. سهيل حسين الفتلاوي , القضاء الدولي الجنائي , ط1 , دار الثقافة للنشر والتوزيع , عمان 2011 , ص130 .


[iii] - كنوت دورمان , اللجنة التحضيرية للمحكمة الجنائية الدولية – أركان جرائم الحرب و المحكمة الجنائية الدولية ,إعداد شريف عتلم , ط5, اللجنة الدولية للصليب الأحمر , جنيف , 2008 , ص75 .


[iv] - د . حسين إبراهيم صالح , الجريمة الدولية , دار النهضة العربية , القاهرة , بدون سنة طبع , ص 21 – 22 .


[v] ـ نفس المصدر ، ص178 ـ 139 .


[vi] -Robert Cryer , An Introduction to Criminal Law and procedure , Cambridge University ,New York ,2008 ,p14 .


[vii] - J . Stone , OP,Cit, P396 .


[viii] - د . محمد عادل محمد سعيد , التطهير العرقي , ط1 , دار الجامعة الجديدة , الإسكندرية , 2009 , ص731 – 732 .


[ix] - نسرين عبد الحميد نبيه , الجريمة الدولية والانتربول ,المكتب الجامعي الحديث , بيروت , 2011 , ص183 .


[x] - Glaser , OP , Cit, P33.


[xi] - د. سوسن تمر خاب بكه , مصدر سبق ذكره , ص86 .


[xii] -Reservations to the convention on the prevention and punishment of the crime of genocide (( Advisory Opinion )) , 1951 , I .C .J, Report ,16, P23.


[xiii] - Maro Politi and Giuseppe Nesi , The Rome Statute Of The International Criminal Courts , Ashgate , U. S .A, 2001 , p256


[xiv] - د . علي محمد جعفر , الاتجاهات الحديثة في القانون الدولي الجنائي , ط1 , المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع , بيروت , 2007 , ص15 .


[xv] - د. زياد عيتاني , مصدر سبق ذكره ,ص328 .


[xvi] - د . سهيل حسين الفتلاوي , جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الانسانية , دار الثقافة للنشر والتوزيع , عمان , 2011, صب .









































































  

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جرائم الإيذاء العمدي

النظريات المفسرة للسلوك الاجرامي

علاقة علم العقاب بباقي فروع العلوم الجنائية الأخرى