علاقة علم العقاب بباقي فروع العلوم الجنائية الأخرى




علاقة علم العقاب بباقي فروع العلوم الجنائية الأخرى

لعلم العقاب طبيعة ذاتية تجعله مستقلاعن فروع القانون الجنائي الأخرى. هذه الذاتية تنشأ من اختلاف موضوعه وأغراضه عن موضوع وأغراض العلوم الأخرى ، مما يؤكد من جديد الطابع العلمي الخاص لهذا العلم. ورغم تلك الذاتية إلا أنه تظل لهذا العلم صلة وثيقة بغيره من العلوم الجنائية ، كقانون العقوبات وقانون الإجراءات الجنائية وعلم الإجرام وعلم السياسة الجنائية. وهو ما سنوضحه بإيجاز في النقاط التالية.






أ : علم العقاب وقانون العقوبات :


من المعلوم أن قانون العقوبات هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم التجريم والعقاب. بمعنى أن المشرع من خلال هذا القانون يحدد أنماط السلوك (السلبي أوالإيجابي) التي توصف بأنها جريمة ، ويحدد لهذه الأنماط الأجزية (عقوبات وتدابير) المناسبة. وبهذا المعنى فإن قانون العقوبات هو علم قاعدي يهدف إلى دراسة القواعد التي تحكم التجريم والعقاب بقصد تفسيرها وبيان مضمونها ثم استخلاص النظريات التي تحكم الأشكال القانونية لنماذج السلوك محل التجريم والجزاءات المنصوص عليها كأثر لوقوع الجريمة وثبوت مسئولية مرتكبيها.






أما علم العقاب ، ورغم أنه هو أيضاً علم قاعدي يهتم بتنظيم الجزاءات الجنائية المختلفة وأساليب المعاملة العقابية بهدف الوصول إلى الغايات المرجوة من التنفيذ العقابي , إلا أنه علم مستقل عن قانون العقوبات. إذ أن هذا العلم – علم العقاب - كما قلنا لا يعتمد في دراساته على تشريع وضعي معين أو على ما هو مطبق بالفعل في دولة ما من الدول ، ولكنه يهتم بدراسة الأصول والقواعد الكلية التي تحكم التنفيذ العقابي ، أو بمعنى أدق يرسم الصورة لما يجب أن يكون عليه بالفعل تنفيذ الجزاء الجنائي. فجوهر دراساته هو تحديد أثر جزاء معين بنوع وقدر معين وكيفية تطبيق معينة في تحقيق الغايات المبتغاة من توقيع الجزاء من الناحية الفعلية[1].






وبالجملة فإن دراسات قانون العقوبات تعتمد على تحليل ما هو كائن بالفعل من تجريم وعقاب، أما دراسات علم العقاب فهي تبحث فيما يجب أن يكون عليه الحال في مرحلة التنفيذ العقابي.






ورغم هذه الاستقلالية إلا أنه يظل بين الفرعين صلة وثيقة تنشأ لعدة أسباب منها :


*- أن دراسات علم العقاب هي التي تقدم للمشرع الجزاء الجنائي المناسب عند محاولة المشرع الجنائي التدخل لتجريم سلوك ما. وعند إفراغ هذا الجزاء في قاعدة قانونية مضافاً إلى شق التجريم تبدأ قواعد قانون العقوبات في التشكيل والتكوين.


*- أن لكل من قواعد قانون العقوبات وعلم العقاب طابع معياري مشترك. فالأولى تبين ما ينبغي أن يكون عليه نشاط الأفراد حتى لا يقعوا تحت طائلته ، أما الثانية فتبين ما ينبغي أن يكون عليه نشاط الإدارة العقابية حتى تتحقق الأهداف المرجوة من توقيع الجزاء الجنائي[2].


*- أن الباحث في علم العقاب لا يسعه للتعرف على النظام القانوني الذي يحكم التنفيذ العقابي في دولة ما من أجل تحليله ونقده ومعرفة مزاياه وعيوبه إلا التوجه إلى القواعد المدونة في قانون العقوبات لهذا البلد. فهي التي تبين للباحث في علم العقاب ما إذا كان التشريع القائم في بلد ما يأخذ بأساليب المعاملة العقابية المتطورة أم لا.






ب : علم العقاب وقانون الإجراءات الجنائية :


قانون الإجراءات الجنائية هو مجموعة القواعد القانونية التي تنظم السبيل الإجرائي لاقتضاء الدولة حقها في العقاب. فهو جملة قواعد إجرائية تنظم إثبات الواقعة الجنائية قبل متهم معين ، بدءاً من التحري والاتهام والتحقيق والمحاكمة ، انتهاءً بتنفيذ الجزاء المقضي به. فلا يكفي أن ينشأ للدولة حق في العقاب كحق موضوعي ينظمه قانون العقوبات ، بل يجب أن يتوافر أيضاً حق أخر يكفل وضع الحق الأول موضع التنفيذ. هذا الحق هو حق إجرائي يرسم كيفية ممارسة الدولة لسلطتها في العقاب وتحديد السلطة المنوط بها هذا الأمر. وكلها أمور يعالجها قانون الإجراءات الجنائية.






من هنا يظهر أن قانون الإجراءات الجنائية هو الأداة القانونية لتوقيع الجزاء الجنائي. فبعد المراحل المختلفة للدعوى الجنائية وبمجرد صدور الحكم النهائي تنتهي مرحلة الإجراءات الجنائية لتبدأ مرحلة التنفيذ العقابي كما يحددها علم العقاب. ومن هنا تبدو الصلة بين كلا الفرعين ، فمن ناحية ساهم علم العقاب بتطوير قواعد الإجراءات الجنائية من أجل كفالة أفضل الضمانات للمتهم ، ومن قبيل ذلك استحداث نظام قاضي تنفيذ العقوبات في بعض الدول. ومن ناحية أخرى تأثر قانون الإجراءات الجنائية بما وصل إليه علم العقاب من نتائج في مجال شخصية المتهم ووجوب فحصه طبيعياً ونفسياً واجتماعياً ووجوب إعداد ما يسمى بملف الشخصية الذي ينتقل مع المتهم خلال كافة مراحل الدعوى الجنائية.






كذلك تكشف دراسات وبحوث علم العقاب عن ضرورة تقسيم مراحل الدعوى الجنائية إلى مرحلتين : الأولى هي مرحلة الإدانة ، وفيها تبحث المحكمة حول ثبوت وقوع الجريمة وإسنادها إلى المتهم ، والثانية هي مرحلة الحكم وفيها تبحث المحكمة في شخصية المتهم ووضعه الاجتماعي والعائلي والمادي من أجل تحديد الجزاء الجنائي الذي يلائم ظروفه وحالته[3].






ج : علم العقاب وعلم الإجرام :


علم الإجرام هو فرع من العلوم الجنائية يهتم ببحث كافة العوامل الدافعة للسلوك الإجرامي. ومن هنا يبدو الفارق بين العلمين ، فبينما تهتم دراسات علم العقاب بدراسة الإجراءات التي يمكن اتخاذها بعد وقوع الجريمة ، فإننا نجد أن أبحاث علم الإجرام تهتم بدراسة الأسباب المختلفة للظاهرة الإجرامية قبل وقوع الجريمة ذاتها. علاوة على ذلك فإن علم العقاب كما سبق القول هو علم قاعدي يتناول بالدراسة الجزاء الجنائي – عقوبة أم تدبير – من أجل استخلاص أغراضه وبيان مجموعة القواعد والمبادئ العامة التي يجب أن تحكم تنفيذه. أما علم الإجرام فهو علم من العلوم السببية التفسيرية ، التي تعني بتفسير الظاهرة الإجرامية بهدف الوصول إلى قوانين عامة تحكم السلوك الإجرامي من حيث دوافعه وأسبابه الفردية والاجتماعية.






وعلى الرغم من هذا الاختلاف ، إلا أن بين العلمين صله هي أقرب إلى التصاهر والاندماج. فكلا العلمين يجعل من الظاهرة الإجرامية موضوعاً لأبحاثه ، ومن المنهج العلمي القائم على الملاحظة والتجريب أسلوباً ومنهجاً للدراسة. كما أن كلا الفرعين يلتقيان عند هدف واحد هو العمل على مكافحة الجريمة ، وأن كلاهما يعد منطلق للأخر ، فلا يمكن دراسة الجزاء الجنائي - كمحور اهتمام علم العقاب - إلا بعد التعرف على أسباب الإجرام ذاته. وبالتالي فإن علم الإجرام - أو علم أسباب الظاهرة الإجرامية - هو مقدمه أولية وضرورية لعلم العقاب ، الذي يرمى إلى إصلاح المجرم وإعادته إلى حظيرة المجتمع الشريف مرة أخرى. لذا يصدق قول البعض أن علم العقاب ما هو إلا "علم الإجرام التطبيقي"[4].


فبناء على ما تسفر عنه أبحاث علم الإجرام من نتائج حول أسباب الظاهرة الإجرامية والعوامل الدافعة إليها يمكن تحديد أفضل الأساليب في مجال المعاملة العقابية ، كي يؤتي الجزاء الجنائي ثماره ويحدث أثره في نفس الجاني وبقية أفراد المجتمع.






د : علم العقاب والسياسية الجنائية :


السياسية الجنائية هي العلم الذي يبحث فيما يجب أن يكون عليه القانون مستقبلاً لا فيما هو كائن بالفعل[5].






وكما سبق وأن أوضحنا في مهد هذا المؤلف فإن علم السياسية الجنائية يهدف إلى اقتراح الوسائل الفعالة لمحاربة الظاهرة الإجرامية. لذا فإن هدف السياسية الجنائية لا يقتصر على الحصول على أفضل صياغة لقواعد قانون العقوبات ، وإنما يمتد إلى إعطاء الإرشادات والتوجيهات إلى كل من المشرع في مرحلة صياغة النصوص العقابية ، وإلى القاضي حال تطبيق تلك النصوص ، وإلى الإدارة العقابية حال تطبيق ما قضى به القضاء في حكمه.






على هذا فإن للسياسية الجنائية مساحة بحثية أوسع وأرحب. فهي تشمل دراسة القاعدة القانونية في مرحلة التجريم ، فتبحث في الأفعال المجرمة بالفعل والأفعال التي يجب تجريمها والأفعال التي يجب أن يرفع عنها وصف التجريم. كما تشمل دراسة القاعدة القانونية في مرحلة اختيار الجزاء الجنائي ، فتبحث فيما إذا كان الجزاء الجنائي القائم يحقق أغراضه أم يلزم استبداله بجزاء أخر أكثر ردعاً ، وما هي أفضل النظم والوسائل التي يجب أن تتبع في تنفيذ الجزاء الجنائي.





عند تلك النقطة تتماس خطوط علم العقاب بعلم السياسية الجنائية. فعلم العقاب هو جزء من السياسية الجنائية يختص بدراسة أهداف وغايات الجزاء الجنائي وأفضل الأساليب التي بجب أن تتبع في تنفيذ هذا الجزاء على نحو يحقق معه أغراضه.








[1] د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص318.


[2] د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص10.


[3] د. أحمد شوقي أو خطوة ، الموجع السابق ، ص316.


[4] د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص316.


[5] د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص13. وحول تعريف السياسية الجنائية بصفة عامة راجع د. أحمد فتحي سرور ، أصول السياسة الجنائية ، دار النهضة العربية ، 1972 ، ص7 وما بعدها.


C. Lazerges, Introduction à la politique criminelle, L’Harmattan, Paris, 2000.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جرائم الإيذاء العمدي

النظريات المفسرة للسلوك الاجرامي