السياسة العقابية في فكر الدفاع الاجتماعي La politique pénitentiaire de la défense sociale



السياسة الجنائية المعاصرة 1

السياسة العقابية في فكر الدفاع الاجتماعي

La politique pénitentiaire de la défense sociale


              تمهيد وتقسيم :


     لاشك أن تعبير الدفاع الاجتماعي La défense sociale تعبير موغل في القدم وتمتد جذوره إلى كافة النظريات التي قيلت في السياسة العقابية على مر العصور القديم منها والحديث ، غاية الأمر انه كان يأخذ في كل مرحلة مفهوماً مختلفاً.

فنراه في المذاهب القديمة التي تسند إلى الدولة ونظام العقاب وظيفة نفعية هدفها الدفاع عن المجتمع ضد عوامل الاضطراب فيها  وعلى الأخص الجريمة. كما نراه أيضا في كتابات الفلاسفة القدماء في العصر الإغريقي أمثال أرسطو وفى العصر الوسيط والحديث لدى ومونتيسكيو وفولتير وبنتام وهوبز وفويرباخ ورومانيوزى. فيقول هذا الأخير تعبيراً عن فكرة الدفاع الاجتماعي "إن غاية القانون الجنائي والعقوبة ليس هو تعذيب أو إيلام كائن حي ، أو إشباع رغبة في الانتقام ، أو التكفير عن جريمة ، أو اعتبارها كأن لم تكن ، ولكن هو إرهاب كل آثم حتى لا يضر مستقبلا بالمجتمع"[1].
وكان لهذه الفكرة صدى أيضاً لدى الفكر التقليدي بزعامة بيكاريا الذي رأى أن هدف العقوبة هو الردع العام على أساس حق المجتمع في الدفاع عن نفسه. كذلك فإن للدفاع الاجتماعي حظ كبير لدى أنصار المدرسة الوضعية ، ولكن بمفهوم جديد مؤداه أن الهدف من النظام الجنائي عامة هو الدفاع عن المجتمع ضد المجرم لا ضد الجريمة ، وهو ما يوجب التضحية بالمجرم في سبيل حماية المجتمع. ولهذا سلمت هذه المدرسة في سبيل الدفاع عن المجتمع بإمكانية توقيع الجزاء الجنائي على أساس الخطورة الإجرامية للشخص لا الفعل الإجرامي أو الواقعة المؤثمة ، مما يوسع من دائرة الجزاء ليشمل كافة المجرمين أيا كان حظهم من الإدراك وحرية الاختيار.

إلا أنه ومنذ بدايات القرن العشرين بدأ الدفاع الاجتماعي يأخذ بعداً جديداً مؤداه أن هدف النظام الجنائي كله لا يجب أن ينصرف للدفاع عن المجتمع ضد المجرم ليقي المجتمع شره وخطره وإنما الهدف هو التوجه للمجرم ذاته من أجل معاونته على استعادة تكيفه مع المجتمع. فالدفاع الاجتماعي في صورته المعاصرة هو حركة نظرية وعملية تهدف إلى توجيه القواعد والتنظيمات الجنائية نحو العمل على استعادة المجرم من خارج المجتمع ليعاود الاندماج فيه مرة ثانية[2].

ولهذه الحركة المعاصرة للدفاع الاجتماعي اتجاهان أحدهما متطرف ، يتزعمه الفقيه الإيطالي فيليبو جراماتيكا Filippo Grammatica ، وهو الدفاع الاجتماعي التقليدي ، والأخر معتدل بزعامة مارك أنسل Marc Ancel القاضي والمستشار بمحكمة النقض الفرنسية ، المؤسس للدفاع الاجتماعي الجديد. وسوف نفرد لكل اتجاه بعض من الصفحات التالية.

3-              أولا : الدفاع الاجتماعي التقليدي (مفهوم جراماتيكا) :


4-              تمهيد وتقسيم :

     ينسب الدفاع الاجتماعي المعاصر إلى الأستاذ الإيطالي فيليبو جراماتيكا الذي كان يعمل أستاذاً للعلوم الجنائية بجامعة جنوا ، وأسس بها مركزاً لدراسات الدفاع الاجتماعي في عام 1945 تولى عقد العديد من المؤتمرات العلمية الدولية حول الدفاع الاجتماعي كان أولها في سان ريمو San Remo في عام 1947 وكان ثانيها في لييج Liège في عام 1949 ، والذي خلاله تم إنشاء الجمعية الدولية للدفاع الاجتماعي L’Association Internationale de la Défense Sociale برئاسة جراماتيكا نفسه. ثم تولت الجمعية نفسها عقد العديد من المؤتمرات للدفاع الاجتماعي ، كان من بينها مؤتمر أنفرس Anvers في عام 1954 ومؤتمر ميلانو Milano في عام 1956 وكان أخرها المؤتمر الدولي السابع للدفاع الاجتماعي في عام 1966 في مدينة ليتشي Licci بإيطاليا.

وقد انتقلت عدوى الدعوة للدفاع الاجتماعي إلى الأمم المتحدة في عام 1948 فأنشأت قسماً للدفاع الاجتماعي يتبع المجلس الاقتصادي والاجتماعي بهدف توجيه النشاط في مجال الوقاية عن الجريمة ومعاملة المجرمين ، مع الاهتمام بصفة خاصة بانحراف الأحداث. ومن الصعيد الدولي إلى الصعيد الإقليمي داخل الوطن العربي تسربت أفكار الدفاع الاجتماعي فأنشئت المنظمة الدولية العربية للدفاع الاجتماعي بمقتضى الاتفاقية التي أقرها مجلس جامعة الدول العربية في عام 1960.

هذا الانتشار يوجب علينا أن نبين الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي التقليدي قبل أن نستعرض تقديرنا لهذا الاتجاه.

5-              أ : الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي التقليدي :

     بين جراماتيكا دعائم الدفاع الاجتماعي في مؤلفه "مبادئ القانون الجنائي المقترح" Principi di diritto penale soggettivo في عام 1934 ثم في مؤلفه مبادئ الدفاع الاجتماعي Principi di difesa sociale في عام 1961[3].

وتتلخص أهم أفكاره في الدفاع الاجتماعي في النقاط التالية :

6-              هدم المفاهيم الجنائية التقليدية وإحلالها بمفاهيم الدفاع الاجتماعي :

     يبدأ جراماتيكا أفكاره بانتقاد المفاهيم التقليدية للقانون الجنائي المرتبطة بالجريمة والمسئولية الجنائية ، على أساس أن هذه المفاهيم ما زالت تجعل من الفعل الإجرامي محوراً للنظام الجنائي ، مع التغافل عن شخص الفاعل نفسه. وعلى هذا ارتبطت المسئولية بالواقعة المسندة وصار تطبيق العقوبة يجرى على نحو تلقائي لا يحتاج سوى النظر إلى الجريمة والعقوبة المقررة. ففي القانون الجنائي التقليدي يرتكز بنيان الجريمة على مقدار ما تمثله من ضرر على المجتمع أو خطر عليه ، كما أن العقوبة ترتبط بالجسامة الذاتية للسلوك ومدى كثافة ما يمثله من ضرر ومقدار ما ينتج عنه من خطر ، ومن ثم تصبح العقوبة موضوعية المعيار لا علاقة بينها وبين شخص الفاعل.

وعلى هذا فيرى جراماتيكا إلغاء قانون العقوبات بمفاهيمه المرتبطة بالجريمة والمسئولية وإحلاله بقانون أخر للدفاع الاجتماعي ، يستعاض فيه عن الجريمة باسم "الانحراف أو العصيان الاجتماعي" وبدلاً من المجرم يستبدل به "الشخص المضاد للمجتمع" أو صاحب السلوك اللااجتماعي ، وأن يستبدل بالعقوبة بعض تدابير الدفاع الاجتماعي.

وعلى هذا فإن جراماتيكا يرى في الدفاع الاجتماعي نظاماً قانونياً مستقلاً يحل محل القانون الجزائي لا أن يندمج فيه أو يتكامل معه[4].

7-              إحلال فكرة التكيف الاجتماعي محل المسئولية الجنائية :

     انتقد جراماتيكا فكرة المسئولية الجنائية بمفهومها التقليدي المرتبط بالجريمة وبالخطأ قائلاً أن هذا المفهوم قاصر عن أن يدفع عن المجتمع حالات الانحراف التي لا ترقى إلى مستوى الجريمة ، كما لا تكفل الحماية الوقائية للمجتمع قبل وقوع الجريمة نفسها. لذا فإن جراماتيكا يقترح استبدال فكرة المسئولية الجنائية بفكرة أوسع هى فكرة "التكيف الاجتماعيSociabilité".

ولديه أن القانون المقترح - "قانون الدفاع الاجتماعي" – يجب أن يهدف إلى مناهضة كل شكل من أشكال عدم التكيف الاجتماعي ، سواء ظهر عدم التكيف في صورة جريمة أو ظهر في أي شكل أدنى من ذلك. وهو في هذا السبيل يقترح استخدام عدد من تدابير الدفاع الاجتماعي يكون غرضها الوقاية والعلاج والتربية ، وأساسها الدراسة العلمية والتجريبية وفق معطيات العلوم الإنسانية ، كتشغيل العاطلين ونشر التعليم والتثقيف بالنسبة للأميين وعلاج المرضى والشواذ الخ. وتلك التدابير ليست جزاءات ولكنها وسائل تربوية وعلاجية ووقائية تنفذ على الفرد غير المتكيف اجتماعيا (مجرم أو غير مجرم) إكراهاً ، على نحو ما يحدث بالنسبة للمريض بمرض معدٍ أو المجانين ، وتنفذ في أماكن أبعد ما تكون عن معنى السجن.

وقد اشتراط جراماتيكا في هذه التدابير - والتي ستحل محل العقوبات - أن تكون موحده ، وأن تشتمل على تدابير وقائية ، وأن تكون غير محددة المدة بحيث يمكن تعديلها أو تبديلها أو إلغائها خلال التنفيذ ، وفق ما تسفر عنه عمليات الرقابة على شخصية الإنسان غير المتكيف اجتماعياً[5].

8-              الجوانب الشخصية للفرد كأساس للدفاع الاجتماعي :

     لقد نادى جراماتيكا بجعل الجوانب الشخصية للفرد ، سواء الاجتماعية أو البيولوجية أو النفسية ، وليس جسامه الضرر الناشئ عن الجريمة ، محوراً لاهتمام قانون الدفاع الاجتماعي المقترح. وعلى هذا فالجزاء (التدابير الاجتماعية عند جراماتيكا) ينبغي أن يرتبط لا بما تحويه الجريمة من ضرر أو بما تمثله من خطر وإنما بالتقدير الشخصي للفاعل على ضوء الظروف التي أحاطت بسلوكه. إذاً ترتبط المسئولية عند جراماتيكا بالحالة النفسية والصحية لصاحب كل سلوك منحرف. وبالتالي تصبح المسئولية الجنائية مجرد إعلان بوجود نفسية فردية مضادة للمجتمع ، أي تنبئ عن فرد غير متكيف اجتماعياً.

على هذا النحو يصبح للجزاء هدف أسمى هو إصلاح هذا الانحراف - "عدم التكيف أو العصيان الاجتماعي" - تمهيداً لعودة الفرد إلى حياة الجماعة الطبيعية. هذا الأمر يقتضى الأخذ بتدابير متنوعة ومتفاوتة بحسب التكوين النفسي وبحسب القالب الاجتماعي للفاعل. فلم يعد المبدأ "هو أن لكل جريمة عقوبتها" ولكن أصبح المبدأ هو أن "لكل شخص غير متكيف اجتماعيًا تدبير يلائمه".

بيد أن جراماتيكا يؤكد على أن بلوغ تلك الأهداف بطريقة متكاملة وعامة يوجب أن تمتد الثورة الإصلاحية لتشمل كل مناحي الحياة الاجتماعية من نظام أسري واقتصادي وتعليمي وصحي. بمعنى أخر وجوب إتباع سياسة اجتماعية تقضي على أسباب الانحراف أو العصيان الاجتماعي في مهده.

9-              ب : تقدير الاتجاه الجراماتيكي (الدفاع الاجتماعي التقليدي) :

     يعود الفضل لجراماتيكا في توجيه الأنظار نحو الصفة الإصلاحية للجزاء الجنائي ، واعتبار هذا الإصلاح حق من حقوق الفرد ومقرر لمصلحته إذا ما ثبت انحرافه اجتماعياً. فالكشف عن هذا الانحراف يلقى على المجتمع الالتزام باتخاذ ما يلزم من تدابير من أجل إعادة التلاؤم بين الفرد وحياته النفسية وبين الحياة الاجتماعية. كما يعود له الفضل في الدعوة لتبنى سياسة عامة لإصلاح النظام العائلي والاقتصادي والتعليمي. وربما هذا هو ما دعى عدد من الدول إلى أن تتدخل في تشريعاتها الكثير من مفاهيم الدفاع الاجتماعي ، خاصة بالنسبة للتدابير التي تطبق على طوائف معينة من المجرمين كالأحداث ومرضى العقول والمشردين. ومثال ذلك قانون المتشردين والشواذ الصادر في أسبانيا في عام 1923 ، وقانون تدابير الأمن الصادر في ألمانيا في عام 1927 وقانون الدفاع الاجتماعي الصادر في بلجيكا عام 1930. وكان قانون الدفاع الاجتماعي الكوبي في عام 1934 أوضح القوانين أخذاً بمفاهيم الدفاع الاجتماعي ، حيث قد وضع أسس هذا القانون جراماتيكا نفسه. كما يعد مشروع قانون العقوبات المصري لعام 1967 من أحدث المشروعات التي تبنت بعض مفاهيم الدفاع الاجتماعي ، خاصة فيما يتعلق بالتدابير واجبة الإتباع حيال بعض أنماط الانحراف الاجتماعي.

وبالرغم من كل هذا فإنه عيب على هذا الفقيه تطرفه في الأفكار حين دعى إلى إلغاء فكرة الجريمة والمسئولية الجنائية والمجرم والعقوبة ، أي القضاء على كل مفاهيم قانون العقوبات التقليدية. ولا شك أن من شأن تلك الدعوة - إذا ما طبقت - أن تعرض النظام الاجتماعي كله للفوضى ، كما تعرض مبدأ الشرعية للخطر ، مما قد يوقع العدوان على الحقوق والحريات الفردية. وحتى لو سلمنا بهذا الإلغاء - رغم وضوح الأفكار المبتغى إلغائها - فإن المفاهيم المقترح الأخذ بها ، كعدم التكيف أو العصيان الاجتماعي والشخص المضاد للمجتمع والسلوك اللااجتماعي ، مفاهيم يصعب تحديدها ويشوبها الكثير من الغموض[6].

هذا التطرف دعا بعض مؤيدي الدفاع الاجتماعي إلى محاولة تهذيب أفكار جراماتيكا ورد العدوان الذي حاول القيام به على مفاهيم القانون الجنائي التقليدية. وهذا بالفعل ما حاول القيام به المستشار مارك أنسل ، مكونا ما يعرف "بالدفاع الاجتماعي الجديد".


10-           ثانيا : الدفاع الاجتماعي الجديد (مارك أنسل) :

11-           تمهيد وتقسيم :

     لم تلقى أفكار جراماتيكا (الدفاع الاجتماعي التقليدي) تأييد من بعض أنصار حركة الدفاع الاجتماعي ، خاصة في فرنسا ، الأمر الذي دعا هؤلاء إلى المنادة بوجوب تصحيح مسار هذه المدرسة. ويعود الفضل إلى المستشار مارك أنسل (المستشار بمحكمة النقض الفرنسية) في وضع أسس الدفاع الاجتماعي الجديد ، أو ما يمكن أن نسميه الاتجاه المعتدل للدفاع الاجتماعي. فلقد وضع هذا الفقيه في عام 1940 كتابة "الدفاع الاجتماعي الجديد ، حركة لسياسة جنائية إنسانية" والذي توالت طبعاته كان أخرها عام 1981[7].
وسوف نستعرض أهم ما جاء من أفكار في هذا المؤلف ، من خلال بيان الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي الجديد ، قبل بيان تقديرنا لهذه الحركة.

12-           أ : الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي الجديد :

     تتنوع الدعائم الفلسفية للدفاع الاجتماعي الجديد ، فمنها ما يرتبط بمفاهيم القانون الجنائي التقليدية خاصة المسئولية ، ومنها ما يتصل بشخصية المجرم ، وأخيراً ما يتصل بهدف الجزاء الجنائي وطابعه الإنساني.

13-           الإبقاء على المفاهيم التقليدية للقانون الجنائي :

     يضع مارك أنسل سياسة للدفاع الاجتماعي لا تنكر قواعد القانون الجنائي التقليدية ، فهو لا ينكر مبدأ الشرعية ولا يذهب إلى حد إلغاء المسئولية ولا الجزاء. ولديه أن المسئولية الجنائية ينبغي أن يكون مبناها الخطأ القائم على حرية الإرادة. فهو لا يؤمن بالوضعية المادية التي تؤمن بالحتمية ولا تعترف بالخطأ. كما أن محرك هذه المسئولية هو الجريمة وليس الفعل المناهض للمجتمع أو العصيان الاجتماعي كما كان يسميه جراماتيكا.

ويؤكد أنسل على أن المسئولية الجنائية هى الغاية والهدف من النظام الجنائي القائم ، بحيث تؤدى المعاملة العقابية بإنماء روح المسئولية لدى المجرم  نحو المجتمع ، فينصرف عن سلوك سبيل الجريمة في المستقبل. وبالجملة فإن الدفاع الاجتماعي الجديد يقوم على ذات الأسس التي قامت عليها المدرسة التقليدية ولكن مع تطوير هذه الأسس في ضوء ما أظهرته الدراسات الحديثة حول السلوك الإنساني[8].

14-           تدعيم الاهتمام بشخص المجرم :

     إن أخذ شخصية المجرم في الاعتبار وإعطائها وزناً في الدعوى الجنائية ، من خلال دراسة مختلف العوامل البيولوجية والنفسية والاجتماعية المتصلة بهذه الشخصية والمؤثرة فيها كعوامل دافعة لارتكاب الجريمة ، يمثل أول سمة لحركة الدفاع الاجتماعي الجديد. فعن طريق الاهتمام بتلك الشخصية وتدعيم الدراسات المتصلة بها يمكن تحديد أنسب طرق المعاملة العقابية ، ويمكن للقاضي تبعا لحالة كل مجرم أن يتخير الجزاء المناسب (عقوبة أو تدبير) ، بما يعين المجرم على التأهيل الاجتماعي والاندماج مرة أخرى في البيئة المحيطة[9].

وهذه الدراسة لشخصية المجرم هى دراسة علمية. فالدفاع الاجتماعي الجديد يدعو إلى إعداد ما يعرف بملف الشخصية Dossier de personnalité ، الذي يحوى كل ما يتصل بالجوانب الشخصية للمجرم ، والمعد من قبل الخبراء المتخصصين بدراسة السلوك الإنساني ، كالأطباء وعلماء الاجتماع وعلماء النفس والإجرام والدراسات الجنائية ، كي يكون تحت يد السلطات الجنائية في كافة مراحل الدعوى ، بما فيها مرحلة التنفيذ العقابي ذاتها باعتبارها – عند هذا الاتجاه - مرحلة من مراحل الخصومة الجنائية. لذا فإن مارك أنسل يرى أن الاهتمام بالفحص العلمي للشخصية ، للاستعانة به في مراحل الدعوى ، لا يمكن أن يتحقق إلا بعد إجراء التعديلات الضرورية على النظام الإجرائي ذاته الذي يحكم الدعوى الجنائية[10].

ويمكن هذا الملف القاضي من التعرف على كل ما يتصل بالمتهم. ولا يعنى هذا مجرد التعرف على الظروف الخارجية للفعل الإجرامي والسوابق القانونية للمتهم ، ولا حتى بياناته الشخصية المحفوظة في دوائر الشرطة ، ولكن يمتد هذا إلى تكوينه البيولوجي وردود فعله النفسية ، وتاريخه الشخصي وحالته وبيئته الاجتماعيةالخ[11].

15-           الطابع الإنساني للجزاء الجنائي :

     يبقي الدفاع الاجتماعي على فكرة الجزاء الجنائي بشقيه العقوبة والتدابير. إلا أن هذا الاتجاه  يطالب بتوحيد صور الجزاء الجنائي في نظام واحد يكون في مجموعة نموذج لرد الفعل الاجتماعي تجاه الجريمة ، بحيث يكون الجزاء الجنائي عملاً اجتماعياً يهدف إلى حماية المجتمع عن طريق التدابير الاجتماعية والعلاجية والتربوية لشخص الجاني ، بما يحول بينه وبين وقوع الجريمة في المستقبل وبما يكفل إعادة تأهيل الجاني ،كل ذلك في إطار مفاهيم القانون الجنائي التقليدية. فالجزاء الجنائي يطبق لتحقيق هذا الهدف الإنساني ، ألا وهو تأهيل المجرم وعدم تركه يهوى في دروب الجريمة ، بعيداً عن الأفكار الفلسفية المتصلة بعدالة الجزاء أو نفعيته.

والجزاء الجنائي عند فكر هذا الاتجاه له طابع إنساني ، يقوم على احترام وضمان الحرية الفردية. ويظهر ذلك جليا في رفض مارك أنسل وأنصاره للتدابير غير محددة المدة ورفضه للتدابير السابقة على الجريمة أو التدابير الوقائية ، كذلك إعلانة الرفض التام لعقوبة الإعدام لتنافيها - حسب زعمهم - مع القيم الإنسانية واحترام حقوق الإنسان[12].

16-           ب : تقدير حركة الدفاع الاجتماعي الجديد :

     لا يمكننا أن ننكر ما لحركة الدفاع الاجتماعي من مزايا ، ومن قبيل ذلك تأكيدها على ضرورة تخليص القانون الجنائي من الأفكار المجردة والافتراضات الميتافيزيقية التي لا تراعي جوانب الملاحظة والتجريب على مستوى الواقع ، ودعوتها إلى تفعيل دور المؤسسات المتصلة بالجريمة والمجرم سواء على المستوى التشريعي أو القضائي أو العلمي ومحاولة علاج هذه المؤسسات من حالة "تصلب الشرايين" على حد قول مارك أنسل[13].
ولهذه الحركة الفضل في تأكيد احترام حقوق الإنسان ووجوب إحاطة الجزاء الجنائي بكافة الضمانات ، والدعوة إلى الإشراف القضائي على التنفيذ والتمسك بمبادئ الشرعية الجنائية والمساواة وشخصية العقوبة وتناسب هذه الأخيرة مع الفعل الإجرامي. فلا يستعبد الدفاع الاجتماعي الجديد القانون الجنائي ومفاهيمه التقليدية كما سبق القول[14]. كما كان لهذه الحركة الفضل في تصحيح التناقض الذي وقع فيه جراماتيكا عندما ارتكن إلى نظام وقاية تحكمى أو نظام ردع تقديري ، يكون الفاعل فيه مجرماً من حيث الإثم الذي أتاه ومريضا غير مسئول يستوجب فقط العلاج دون أن يكون للعقاب معنى الجزاء.

على أن أعظم ما قدمته حركة الدفاع الاجتماعي الجديد هو تركيزها على شخصية المجرم من خلال وجوب إعداد ما سمته ملف الشخصية للاستعانة به في مراحل الدعوى المختلفة[15]. وهو الأمر الذي أخذ به المشرع الفرنسي في قانون الإجراءات الجنائية عندما عدل المادة 81/6 بالقانون رقم 466-83 الصادر في 10 يونيه 1983 ملزما قاضى التحقيق Juge d’instruction في الجنايات ببحث الظروف الشخصية للمتهم من حيث مركزه المادي والأسرى والاجتماعي ، والترخيص له بذلك في مواد الجنح. والإجازة له في كافة المواد بإجراء فحص طبي ونفسي لشخصية المتهم (م81/7)[16].

كما كان لهذه الفكرة - "ملف الشخصية" - أثرها الإجرائي عند بعض الفقهاء عندما اقترحوا تقسيم مراحل المحاكمة إلى مرحلتين ، في الأولى يقرر القاضي الإدانة من الناحية الموضوعية ، أي من حيث ثبوت ونسبة الواقعة الإجرامية إلى المتهم ، وفى الثانية يقرر القاضي الحكم. وهذه المرحة الأخيرة شخصية ينظر فيها القاضي للظروف المتصلة بشخص المتهم "المدان" من حيث وضعه المالي والعائلي والاجتماعيالخ ، كي يقدر الجزاء المناسب لحالته.

هذا الاقتراح كرسته - إلى حد ما - بعض التشريعات ، منها قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي بالقانون رقم 624-75 الصادر في 11 يوليو 1975 (م 469/3 و 539/1) عندما أجاز للمحكمة بعد أن تقرر الإدانة أن تحكم بتأجيل النطق بالعقوبة L’ajournement  ، عندما يثبت لديها أن الضرر الناشئ عن الجريمة قد زال أو على وشك الزوال وأن الجاني في سبيله للتكيف الاجتماعي مرة أخرى[17].

إلا أنه رغم هذا الانتشار لمفاهيم الدفاع الاجتماعي الجديد ، فإنها قد تعرضت للكثير من أوجه النقد[18] ، نوجزها في الآتي :
*- عيب على هذه الحركة افتقارها إلى المنهج الموحد الذي يجعل منها مدرسة أو حركة مذهبية متكاملة ، وليس مجرد شتات أفكار. وقد يبدو أن هذا الأمر كان مقصوداً عند مارك أنسل إذ أنه في رده على هذا النقد قد أوضح أن الدفاع الاجتماعي الجديد  ليس اتجاهاً عقائدياً ولا يرتبط بأي دين ولا لأية عقيدة سياسية. فهو مجرد حركة أو تيار مستقل من الناحية الفكرية ويهدف إلى إرساء مبادئ عامة تحكم رد الفعل الاجتماعي تجاه الجريمة ، من أجل أن تصبح السياسة الجنائية الحديثة معبرة عن جانب من جوانب إدخال الطابع الاجتماعي إلي القانون المعاصر وخاصة القانون الجنائي[19].
*- كما عيب على هذه الحركة أنها بتوجيهها الاهتمام نحو شخصية المجرم قد ألزمها بالاستناد إلى النتائج التي توصلت إليها علوم إنسانية أخرى ، رغم أن تلك العلوم مازالت في مرحلة التكوين ولم تتأكد بعد ، كعلم الإجرام مثلا. غير أنه مما يخفف من غلواء هذا النقد - وحسب ما يرى مارك أنسل نفسه - أن تلك الحركة استطاعت التقريب بين علماء القانون وعلماء السلوك الإجرامي في فروع العلوم الإنسانية الأخرى ، دون أن يكون رجل القانون تابعاً لعالم الإجرام. فالهدف هو أن يدرك رجل القانون من أنه ليس وحده المختص بمحاربة الجريمة ولكن يشاركه في ذلك أفرع أخرى ، بحيث ينظر للجريمة على أنها حقيقة قانونية ذات طابع اجتماعي دون تغليب لجانب على جانب أخر.

فقانون العقوبات يجب أن يخرج – وهو لحسن الحظ يخرج أخيراً – من عزلته الفخيمة والنظر إليه كعلم اجتماعي يرتبط بالشخصية الإنسانية وبالعلوم المتصلة بها[20]. وكما يقول مارك أنسل : إن إقامة الفرصة للقاضي لفهم الإنسان الذي أمامه من حيث شخصيته ودوافعه ووسطه لا يؤدى إلى دعوة ذلك القاضي إلى الإقلاع عن مهمته الحقيقية (أي النظر للجريمة كحقيقة قانونية تقاس بمعايير قانونية موضوعية لجسامة الفعل) وإنما الهدف من كل ذلك هو التقدم نحو إقامة نوع من العدل الإنساني مما يوجب التخفيف من غلواء النظرة القانونية المجردة للجريمة وإصباغها ببعض السمات الشخصية النابعة من التمايز الفردي والاجتماعي لكل مجرم[21].

*- كما عيب على هذه الحركة مغالاتها في الهدف التأهيلي للجزاء الجنائي مما يقلل من الهدف والمضمون الأخلاقي لهذا الأخير المتمثل في الردع العام ، ويضعف بالتالي الإحساس بالمسئولية لدى الأفراد ولدى الجماعة. على أن مارك أنسل يرد على هذا النقد بقوله أنه يمكن الوصول لتحقيق الهدف الأخلاقي للجزاء وكذلك الهدف التأهيلي عن طريق الجمع بين كل من العقوبة والتدابير في نظام موحد لرد الفعل العقابي. ولا يعيب ذلك كون كلا النوعين من الجزاءات يستند إلى أسس مختلفة. فبالعقوبة يمكن للقاضي أن يواجه الجريمة على أساس القمع أو الردع العام بالنسبة لبقية أفراد المجتمع (الهدف الأخلاقي) ، وبالتدابير يمكن أن يحقق الهدف الاجتماعي الخاص بتأهيل وإصلاح المجرم عن طريق البرامج العلاجية والتربوية ، بحيث يرتفع التعارض بين العقوبة والتدابير ، ويرتفع التعارض بين الهدف الأخلاقي والتأهيلي للجزاء الجنائي[22].

وربما الذي جعل هذا الاتجاه يغالي في الهدف التأهيلي للجزاء الجنائي - كما يقول مارك أنسل - هو أن تحقيق الردع العام كهدف للعقوبة أمر يظل غير مؤكد إلى حين تمام تنفيذ العقوبة بالفعل داخل المؤسسة العقابية. فليس حكم القاضي نفسه هو الذي يحقق الأثر الرادع للعقوبة ، فالتفريد العقابي الذي يحدث داخل السجن وأساليب المعاملة المطبقة كثيراً ما تغير في هذا الحكم. فضلاً عن أن الأثر الرادع للعقوبة لا ينبع في الحقيقة من العقوبة ذاتها التي يطبقها القاضي وإنما يحدث نتيجة عوامل أخرى أهم منها ، كسرعة تحقيق العدالة الجنائية وفاعليه دور الشرطة والنيابة العامة والقاضي الجنائي[23].






[1] د. يسر أنور علي وآمال عثمان ، المرجع السابق ، ص333.
[2] لمزيد من التفصيل راجع : السيد يس ، السياسة الجنائية المعاصرة ، دراسة تحليلية لنظرية الدفاع الاجتماعي ، دار الفكر العربي ، 1973.
[3] F. Grammatica, Principi di diritto penale, Torino, 1934 ; add. Principi di difesa sociale, Padova, 1961.
[4] R. Schmelck et G. Picca, op. cit., p. 59 et s ; R. Merle et A. Vitu , op. cit., p. 34 et s.
د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص366.
[5] M. Ancel, La défense sociale nouvelle, un mouvement de politique  criminelle humaniste, Paris, 2ème éd. Cujas, 1966 et 3ème éd. Paris 1981.
ترجمة د. حسن علام ، 1991 ، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، ص120 وما بعدها.
[6] د. أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص371-372.
[7] M. Ancel, La défense sociale nouvelle, un mouvement de politique criminelle humaniste, 3ème éd., Cujas, 1981.
وراجع الترجمة العربية د. حسن علام ، الدفاع الاجتماعي الجديد ، سياسة جنائية إنسانية ، 1991 ، منشأة المعارف ، الإسكندرية.
[8] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص163 وما بعدها. Schmelck et G. Picca, op. cit., p. 59 ; R. Merle et A. Vitu, op. cit., p. 36.
[9] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص189 وما بعدها.
[10] راجع د. نور الدين هنداوي ، ملف الشخصية : نحو مفهوم علمي لحسن سير العدالة الجنائية ، دار النهضة العربية ، 1992.
[11] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص 191 وما بعدها.
[12] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص241 وما بعدها.
[13] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص 304
[14] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص 269.
[15] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص 189 وما بعدها.
[16] R. Merle et A vite , Traité de droit criminel , T. II, procédure pénale, 1989, Paris, p. 407.
[17] A. Vitu, La division du procès pénal en deux phases, RID. com., 1969, p. 485 et s.
[18] راجع حول الانتقادات التي وجهت للدفاع الاجتماعي الجديد ورد مارك أنسل عليها ، د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص267 وما بعدها.
[19] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص 271. ويؤكد مارك أنسل من هذا المنطلق على "أنه لا يمتنع أن يكون الدفاع الاجتماعي متبنى من قبل البلاد الإسلامية الأكثر تطوراً وأنه يضم مناصرين متحمسين في الشرق الأقصى ومتعاطفين جدداً في البلاد الاشتراكية ، ذلك ان هؤلاء إن كانوا حساسين لما يؤكدونه من الإنسانية الاشتراكية التي ينتمون إليها ، فإن الروابط الإنجيلية للدفاع الاجتماعي في أصوله العميقة ليس من شأنها ان تقلقهم ما داموا لا يجهلون أ ن الفكر الأوروبي قد تشكل تاريخياً في جانب كبير منه تحت تأثير التراث المسيحي".
[20] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص 278.
[21] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص279.
[22] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص 198 وما بعدها.
[23] د. حسن علام ، الترجمة العربية للدفاع الاجتماعي الجديد ، المرجع السابق ، ص 274-275.س

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جرائم الإيذاء العمدي

النظريات المفسرة للسلوك الاجرامي

علاقة علم العقاب بباقي فروع العلوم الجنائية الأخرى