طبيعة تنفيذ قواعد الجزاء الجنائي



           طبيعة تنفيذ قواعد الجزاء الجنائي:

     من بين الأسئلة التقليدية التي تحاول دراسات علم العقاب الإجابة عليها التساؤل حول طبيعة التنفيذ العقابي. وفي الإجابة على هذا التساؤل يمكنا القول أن هناك سمات ثلاث تحكم طبيعة التنفيذ العقابي نتولاها بالإيضاح على النحو التالي :

              أ : الطبيعة الإدارية لقواعد التنفيذ العقابي :

     غالباً ما يكون سند التنفيذ العقابي هو الحكم الجنائي النهائي الذي يصدر من القاضي المختص بعد إحالة الدعوى إليه من السلطة المختصة بذلك وفق القانون ، متضمناً هذا الحكم توقيع عقوبة جنائية أو تدبير يحدده التشريع على متهم ثبتت إدانته. وقد يكون سند التنفيذ العقابي أمراً جنائياً يصدره قاضي أو أحد أعضاء النيابة من درجة معينة وفي أحوال تعينها النصوص القانونية. والأمر الجنائي له طبيعة قضائية ، إذ هو في حقيقة الأمر حكماً واجب التنفيذ متى صار نهائياً يتضمن توقيع عقوبة دون اتخاذ الإجراءات العادية للدعوى الجنائية من تحقيق ومحاكمة ، وبه تنقضي سلطة الدولة في العقاب قِبل المتهم (المواد 323 إلى 330 إجراءات جنائية مصري)[1].
وبمجرد صيرورة الحكم الجنائي حكماً باتاً لا يجوز الطعن فيه ، إما باستنفاذ طرق الطعن أو بسبب انقضاء مواعيده المقررة ، فإن الرابطة القانونية العقابية التي تترتب على وقوع الجريمة بين الدولة صاحبة الحق في العقاب وبين مرتكب الجريمة تكون واجبة التنفيذ. وفي هذه المرحلة (مرحلة التنفيذ العقابي) تكون الدعوى قد خرجت من حوزة المحكمة ويصبح أطراف الرابطة الإجرائية هما المحكوم عليه محل التنفيذ والسلطات الإدارية في الدولة التي يوكل إليها أمر تنفيذ ما جاء في الحكم الجنائي.

من أجل هذا فإن القواعد التي يشملها علم العقاب وتحكم مرحلة التنفيذ العقابي هي قواعد ذات طبيعة إدارية وليست قضائية. ويترتب على ذلك أن السلطة القضائية تغل يدها عن التدخل في هذه المرحلة إلا في الحالات الاستثنائية التي قد يقررها المشرع[2].

         ب : الطابع الاستقلالي لقواعد علم العقاب :

     ونقصد بالطابع الاستقلالي لقواعد تنفيذ الجزاء الجنائي هو استقلال هذه الأخيرة عن التشريع الوضعي باعتباره التجسيد الحي للقواعد القانونية التي تحكم تنفيذ الجزاء. فقواعد علم العقاب هي قواعد ودراسات إرشادية تهدف إلى توجيه المشرع إلى الوسائل العلمية والفنية الحديثة التي يمكن أن تتلافى عيوب الأساليب العقابية المأخوذ بها بالفعل في التشريع القائم.

وعلم العقاب في وصوله لهذه المبادئ الحديثة التي يوجها إلى المشرع لا يعتمد على تشريع وضعي معين ، ولا يتقيد بإدارة شارع بعينة. فهو علم توجيهى تجريبي يدرس الأصول والمبادئ الكلية المجردة التي تكفل تحقيق الأغراض المبتغاة من تنفيذ الجزاء الجنائي. إذاً لا تعني دراسات علم العقاب بتحليل النصوص القانونية القائمة وشرحها ، ولكن الدور الرئيسي هو تقيمها بهدف الوصول إلى أفضل النظم التي تحكم التنفيذ العقابي. ويعتمد علم العقاب في تحقيق ذلك - شأنه شأن بقية العلوم الاجتماعية - على أسلوب الدراسة المقارنة ، فهو يفاضل ويقارن بين التشريعات الأجنبية من أجل توجيه المشرع الوطني إلى النظم التي ارتقت بأساليب التنفيذ العقابي بغية التطوير على المستوى الوطني أو الداخلي[3].

             ج : الطابع العلمي لقواعد التنفيذ العقابي :

     دائماً ما يطرح الفقه التساؤل حول ما إذا كان العقاب يعد علماً Science أم أنه يعتبر مجرد فن Technique.
ولكي نجيب على هذا التساؤل نبادر إلى القول أنه إذا كانت الدراسات العقابية تعني باستقراء الواقع العملي للتنفيذ العقابي ، كي تفاضل بين الأنظمة العقابية الواجب إتباعها ، محاولة من ناحية استخلاص مجموعة من القوانين العلمية تحدد علاقة السببية بين وسائل تنفيذ العقوبات والتدابير المختلفة على نحو معين وتحقيق غرض معين من ناحية أخرى ، وتضع بذلك للمشرع الخطط التي يجب إتباعها حال التنفيذ العقابي ، فإن هذه الدراسات يكون لها الصبغة العلمية ، ويكون العقاب علماً بالمعنى الفني الدقيق للكلمة. ذلك أن العلم ما هو إلا مجموعة من القوانين التي تحدد صلة سببية بين ظاهرتين أو أكثر من ظواهر الدراسة[4]. وهذه الصلة قد تكون حتمية وقد تكون احتمالية حسب نوع العلم (علم طبيعي ـ علم إنساني أو اجتماعي)[5]. وإلى هذه الأخيرة ينتمي علم العقاب ، فهو لا يعطي قوانين عامة ويقينية كتلك المعروفة في العلوم الطبيعة.

ورغم الطابع العلمي للعقاب فإن الأخير له شق فني كجزء أساسي من مستلزمات علم العقاب، ذلك لأن القواعد التي تخص التنفيذ هي قواعد عامة ومجردة ويوكل تنفيذها إلى أشخاص متخصصين عليهم واجب العلم بوسائل وأدوات التنفيذ التي تصلح لكل مجرم على حدة حتى يمكن تطبيق كافة القواعد التي توصل إليها علم العقاب في مجال التنفيذ العقابي. ففن العقاب هو الأداة اللازمة لتطبيق علم العقاب ، وهو السلاح في يد رجال الإدارة العقابية يمكنهم من إعمال قواعد التفريد العقابي[6].

جملة القول أنه إذا العقاب في المقام الأول هو علم يستهدف الوصول للقواعد المثلى للتنفيذ العقابي من خلال مقارنة النظم العقابية بعضها ببعض ، إلا أن هذا العلم لن يكون له القيمة الفعلية إلا بالاهتمام بفن العقاب ، أي الاهتمام بالكيفية التي بها يتم تطبيق قواعد هذا العلم على المستوى العملي داخل وخارج المؤسسات العقابية. وهذا التركيز على جانب فن العقاب هو تمسك بحقيقة تاريخية مؤداها أن فن العقاب كان أسبق في الظهور من قواعد علم العقاب




[1] حول الأمر الجنائي راجع د. عبد الرءوف مهدي ، شرح القواعد العامة للإجراءات الجنائية ، دار النهضة العربية ،  2002 ، ص805 وما بعدها ، د. أحمد فتحي سرور ، الوسيط في قانون الإجراءات الجنائية ، ط7 ، دار النهضة العربية ، 1993 ، ص860 وما بعدها ، د. يسر أنور علي ، الأمر الجنائي ، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية ، 1974 ، ص519 وما بعدها.
[2] يجب التأكيد على أن الاتجاهات الحديثة في السياسة العقابية تدعو إلى جعل مرحلة التنفيذ العقابي جزءاً من الخصومة الجنائية مع وجوب إخضاعها للإشراف القضائي الكامل. ولهذا اتجهت بعض الدول في الأخذ بفكرة قاض تطبيق العقوبات الذي يتولى تنفيذ ما جاء بالحكم الجنائي الصادر بالإدانة ، ويوكل إليه أحياناً التعديل في هذا الحكم وفق ما يراه قد طرأ على سلوك المحكوم عليه سلباً أو إيجاباً. راجع حول هذه فكرة ، د. عبد العظيم مرسي وزير ، دور القضاء في تنفيذ الجزاءات الجنائية ، دراسة مقارنة ، دار النهضة العربية ، 1987 ، د. مرقص سعد ، الرقابة القضائية على التنفيذ العقابي ، رسالة دكتوراه ، القاهرة1972. د. حسن صادق المرصفاوي و د. محمد زيد إبراهيم ، دور القاضي في الإشراف على تنفيذ الجزاء الجنائي , منشورات المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية ، 1970.
Sliwowski, Caractère judiciaire ou administratif de l’exécution du la peine au regard du problème de son contrôle, RIDP. 1965, p. 82 
[3] في ذات المعنى ، د. محمود نجيب حسني , المرجع السابق , ص4 وما بعدها. د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص313.
[4] د. محمد زكي أبو عامر ، المرجع السابق ، ص311. د. محمد عيد الغريب ، المرجع السابق ، ص 8-9.
[5] د. أحمد شوقي أبو خطوة , المرجع السابق ، ص303.
[6] في هذا المعنى ، د. أحمد عوض بلال ، المرجع السابق , ص14. 

إعداد جميلة  أتمنى الاستفادة للجميع و شكرا لكم 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جرائم الإيذاء العمدي

النظريات المفسرة للسلوك الاجرامي

علاقة علم العقاب بباقي فروع العلوم الجنائية الأخرى