السياسة العقابية في النيو كلاسيكية المعاصرة



السياسة الجنائية المعاصرة 2
السياسة العقابية في النيو كلاسيكية المعاصرة
 Le néo-classique contemporain

1-              تمهيد :

     ترتكز السياسة العقابية عند الاتجاه النيوكلاسيكي المعاصر على أفكار العديد من الفقهاء المعاصرين[1] أمثال جورج ليفاسير  G. Levasseur وروجه ميرل Merle  R. وجان ليوتيه  J. Léautéوجان لارجييه J. Larguier. ويهدف هذا الاتجاه إلى إجراء سياسة توفيقية بين فكر الدفاع الاجتماعي ، كما انتهى إليه مارك أنسل ، وبين السياسة الجنائية التقليدية ، في استعارة واضحة للأفكار الفقيه ريموند سالي R. Saleilles في مؤلفه الذي ظهر في عام 1898 حول تفريد العقوبة. وهو ما سنبينه من استعراض دعائمها الفلسفية وأوجه نقدها[2].

2-              أولاً : الدعائم الفلسفية للنيوكلاسيكية المعاصرة :

     لإعمال النظرة التوفيقية اعتمدت السياسة النيوكلاسيكية المعاصرة على عدد من المبادئ منها :
*- التمسك بالمفاهيم الكلاسيكية عن الجزاء الجنائي كمقابل للجريمة ، وأن الإدانة عن الجريمة تتوقف على المسئولية ، وهو شرط أساسي لكل معاملة عقابية ، دونما بحث نظري أو تجريدي لفكرة التسيير والتخيير في السلوك الإنساني ومنه السلوك الإجرامي. فالمسئولية الجنائية ليست حتماً مسئولية أخلاقية وإلا اعتبر ذلك إهدار لبعض جوانب الجبرية في السلوك البشرى.
*- أنه لتحقيق معنى الإيلام (الردع) ومعنى الإصلاح والتأهيل يجب الاقتصار على العقوبة وحدها كصورة للجزاء الجنائي دونما لجوء إلى فكرة التدابير. فتحدد العقوبة وفقاً لقدرة المجرم على تحمل العقاب والإستفاده منه في المستقبل ، وهو ما أسمته هذه الحركة "أهلية تنفيذ العقوبة". وهذا التحديد يتم في المراحل الأولى للدعوى الجنائية ، أما عند الدخول في مرحلة التنفيذ العقابي ، فإنه يتم إجراء فحص شامل للشخصية الإجرامية للمحكوم عليه من حيث وضعه العائلي  والاجتماعي والمادي ، في ضوء معطيات كافة العلوم الاجتماعية ، بما يمكن من إعمال قواعد التفريد العقابي لكل مجرم ويحقق الهدف الإصلاحي والتأهيلي للعقوبة. وفى ضوء ذلك ترى النيوكلاسيكية المعاصرة إمكانية تحقيق كلا من الردع العام والإصلاح من خلال العقوبة وحدها ودون اللجوء إلى فكرة التدابير الاحترازية التي استعيض بفكرة التفريد العقابي بديلاً عنها.

3-              ثانياً : تقدير النيوكلاسيكية المعاصرة :

     أٌخذ على هذا الاتجاه إسقاطه للكثير من الأفكار التي ساهمت في تطوير الفكر الجنائي عامة. ومن قبيل ذلك فكر المدرسة الوضعية عن التدابير ، وخاصة التدابير الوقائية "بدائل العقاب" ، والتي تتخذ حيال الحالات الخطرة التي تكشف عن احتمالية ارتكاب الجريمة في المستقبل[3].

كما عيب على هذا الاتجاه أنه جعل التفريد عمل من أعمال الإدارة العقابية وليس مهمة القاضي الجنائي أي جعله تفريد تنفيذي فقط. فالقاضي يكتفى بتحديد العقوبة بطريقة قانونية مجردة ، ثم يترك للإدارة العقابية مهمة تحديد أشكال المعاملة العقابية الملائمة في ضوء ما يكشف عنه فحص الشخصية. ولا شك أن الأخذ بهذا الأمر فيه من الخطورة على الأفراد في ظل الأنظمة التي لا تأخذ بنظام الإشراف القضائي على التنفيذ (مثال مصر) ، وتجعل من هذه المرحلة مرحلة منفصلة عن الدعوى الجنائية تتولاها السلطة التنفيذية (وزارة الداخلية في مصر من خلال الإدارة العامة للسجون) ، الأمر الذي يوجب حال الأخذ بهذه المفاهيم النيوكلاسيكية ، إخضاع التنفيذ العقابي للإشراف ما يعرف بقاضي تطبيق العقوبات ، على نحو ما هو معمول به في التشريع الفرنسي ، ولا يخفى ما لتطبيق هذا النظام من مشكلات ، خاصة على الصعيد المالي للدولة.




[1] G. Levasseur, Rapport de synthèse aux travaux de la XIIIème  journées de défense sociale, RSC. 1964, p. 783 ; R. Merle, La confrontation doctrinale du droit pénal classique et de la défense sociale, RSC. 1964, p. 725 ; J. Léauté, Le Néo-classicisme, in La responsabilité pénale, Travaux de l’Institut de sciences criminelles de Strasbourg, 1957, p. 951 ; J. Léauté, Les tendances du droit français et du droit pénal contemporain, Annales de la Faculté de droit de Liège, 1958, p. 65.
[2] R. Saleilles, L’individualisation de la peine, Paris, 1898 ; réédition de la troisième édition de l’ouvrage de Raymond Saleilles, Sous la direction de R. Ottenhof, érès, 2001.
[3] في ذات المعنى ، أحمد شوقي أبو خطوة ، المرجع السابق ، ص 386.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جرائم الإيذاء العمدي

النظريات المفسرة للسلوك الاجرامي

علاقة علم العقاب بباقي فروع العلوم الجنائية الأخرى