جريمة غسيل الأموال - الجزء الاول-

                                             
                     



   جريمة غسيل الأموال - الجزء الاول-

غسل الأموال أو تبيض الأموال هى أحد صور الجرائم الأقتصادية التي تهدف إلى إضافة الصفة الشرعية على العمليات التي تنطوى على كسب أموال أو حيازتها أو التصرف فيها أو إدارتها أو حفظها أو إستبدالها أو إيداعها أو إستثمارها أو تحويلها أو نقلها أو التلاعب في قيمتها إذا كانت متحصلة من جرائم مثل زراعة وتصنيع النباتات المخدرةأوالجواهر والمواد المخدرة وجلبها وتصديرها والإتجار فيها،واختطاف وسائل النقل ، واحتجاز الأشخاص وجرائم الإرهاب وتمويلها ، والنصب وخيانة الأمانة والتدليس ، والغش ، والفجور والدعارة ، والاتجار وتهريب الأثار ،والجنايات والجنح المضرة بأمن الدولة من جهة الخارج والداخل ، والرشوة ، واختلاس المال العام والعدوان عليه ، والغدر ،وجرائم المسكوكات والزيوف المزورة والتزوير .



أركان جريمة غسيل الأموال
قبل الحديث عن أركان جريمة غسيل الأموال، لابد من إثارة إشكالية تتعلق بتجريم غسيل الأموال، هل هي جريمة تبعية و بالتالي صورة من صور المشاركة و المساهمة أم هي جريمة يمكن أن يستوعبها القانون الجنائي من خلال جريمة إخفاء أشياء متحصل عليها من جناية أو جنحة؟.
للإجابة عن هذا السؤال انقسم الفقه إلى اتجاهين: البعض يرى أن جريمة غسل الأموال تندرج ضمن صور المساهمة و المشاركة، إذ يمكن تكييف أفعال الغاسل على أنها نوع من الاشتراك في الجريمة الأصلية و من تم يرى هذا الاتجاه الى ضرورة تجريم غسيل الأموال بموجب قانون خاص)، أما البعض الآخر فيرى أنه لا داعي لتجريم غسيل الأموال بقانون خاص و مسوغه في ذلك أن القانون الجنائي ينص على جريمة إخفاء الأشياء المتحصل عليها من جناية أو جنحة الذي يستوعب جريمة غسيل الأموال(. إلا أن هذا الرأي الأخير مردود عليه اعتبارًا لخصوصية جريمة غسيل الأموال و طبيعتها ، و إننا نؤيد الطرح الأول لما فيه من حماية أكثر  للاقتصاد و المجتمع من سلبياتها.
و تقوم جريمة غسيل الأموال على الاركان الكلاسيكية ركن مـادي (المطلب الثانـي) و ركن معنوي (المطلب الثالث) بالاضافة لهذين العنصرين يتطلب لقيام هذه الجريمة شروط أولية أو عناصر مفترضة أو خاصة يكون لتخلفها أو توافرها انعكاس على وجود الجريمــة أو عدمها- الركن المفترض- (المطلب الأول).

         المطلب الأول: الركن المفترض
حتى يمكن الحديث عن وجود جريمة غسيل الأموال، لا بد من التحقق من قيام الركن المفترض الذي يقوم على وجود جريمة سابقة على جريمة غسيل الأموال، وأن يتحصل منها محل جريمة غسيل الأموال نفسها، وهي العائدات غير المشروعة المراد إخفاؤها(.
وبالتالي نكون أمام أركان جريمة أخرى سابقة لارتكاب جريمة غسيل الأموال، والتي يطلق عليها الجريمة الأولى أو الجريمة المتبوعة أو الجريمة الأصلية والتي يتحصل منها
عائدات قد تكون منقولة أو غير منقولة. 
و قد اختلفت التشريعات التي تناولت جريمة غسيل الأموال حول وضع معيار يستند عليه لتحديد الجريمة الأولية، حيث يمكن أن نجمل هذا الاختلاف في ثلاث اتجاهات:
الاتجاه الأول: يحصر جريمة غسيل الأموال في الأموال المتحصلة من جرائم المخدرات أو من جرائم معينة، كما هو الحال في اتفاقية الأمم المتحدة  لمكافحة الاتجار غير المشروع في المخدرات (اتفاقية فيينا 1988) والقانون المصري (المادة 2) وكذلك القانون المغربي (المادة 2/574).
الاتجاه الثاني: هذا الاتجاه يجرم بوجه عام بحيث لا يتم مسبقا وضع تحديد للجرائم الأصلية، وبهذا يمكن ضم جل صور وأشكال الجرائم من جنايات أو جنح. و قد تم تبني هذا الاتجاه في اتفاقية ستراسبورغ في م 1/هـ ، وكذلك القانون الجنائي الفرنسي في المواد 324/1-2.
الاتجاه الثالث: هذا الاتجاه يجمع بين الاتجاهين الأول والثاني، حيث يأخذ بنوع معين من الجرائم دون تحديد لمكوناته أو محتوياته كتحديد الجنايات بشكل عام، وفي نفس الوقت حصر بعض الجرائم وتجريم الغسيل الذي يقع على الأموال المتحصلة منها، ومن التشريعات التي أخذت بهذا الاتجاه التشريع الألماني و اتفاقية "باليرمو" في المادة السابعة. 
وقد حدد المشرع المغربي لائحة حصرية بالجرائم التي تعتبر محلا لجريمة غسيل الأموال، وذلك في الفصل 574/2 من ق. 43.05 المتعلق بمكافحة غسيل الأموال والذي جاء فيه: «يسري التعريف الوارد في الفصل 574-1 أعلاه على الجرائم التالية:
- الاتجار في المخدرات و المؤثرات العقلية،
-      المتاجرة بالبشر،
-      تهريب المهاجرين،
-      الاتجار غير المشروع في الأسلحة والذخيرة،
-      الرشوة والغدر واستغلال النفوذ واختلاس الأموال العامة والخاصة،
-      الجرائم الإرهابية،
-      تزوير النقود وسندات القروض العمومية أو وسائل الأداء الأخرى(».
وبهذا فقد أقام المشرع علاقة بين جريمة غسيل الأموال والجريمة الأصلية، هاته العلاقة تظهر في أن الجريمة الأصلية تعد الركن المفترض لجريمة غسيل الأموال مع الحفاظ على الاستقلال في باقي الأركان، والذي يتمثل في وجود الجريمة الأصلية بكافة عناصرها التي ينص عليها القانون لقيام جريمة غسل الأموال، وبناءا عليه، فإن الجريمة الأولية تعد متوافرة سواء تم تحريك الدعوى الجنائية، أم لم يتم تحريكها ما دامت قد توافرت عناصرها القانونية، لذا ليس هناك تلازم بين إدانة مرتكب الجريمة الأصلية وتحقق المسؤولية الجنائية، لمرتكب جريمة غسيل الأموال.
ويمكن القول أنه لا يستوجب لإثبات توافر الجريمة الأصلية أن يصدر حكم يقضي بالإدانة على مرتكبها كي تقوم جريمة غسيل الأموال، فجريمة غسل الأموال تعتبر متوفرة ولو كانت الدعوى الجنائية لم تحرك ضد مرتكب الجريمة الأولية، أو حركت وقضت المحكمة ببراءته وذلك لتوافر مانع من موانع المسؤولية الجنائية، أو مانع من موانع العقاب . وكذلك لا يعتبر العفو الصادر بشأن العقوبة المقضي بها في الجريمة الأصلية مانعا من المتابعة عن جريمة غسيل الأموال.
والتساؤل الذي يطرح نفسه هو هل يمكن أن يكون الجاني في الجريمة الأصلية نفسه هو في جريمة غسيل الأموال؟ .
في هذا المجال نجد الفقه انقسم الى اتجاهين: الاتجاه الأول يرى أنه لا مانع من أن يكون الجاني هو نفسه في كلا الجريمتين، أما الاتجاه الثاني فإنه لا يقبل بهذه الفرضية (أي أنه لا يجوز اتحاد الجاني في الجريمتين) ().   
أما بخصوص المشرع المغربي، فإنه لم يشترط أن يكون مرتكب جريمة الغسل شخص آخر بخلاف مرتكب الجريمة الأولية، وهو ما كرسه الفصل 574/1 من ق.43.05 المتعلق بمكافحة غسيل الأموال، أي أنه قد تبنى رأي الاتجاه الأول الذي يقول باتحاد الجاني في كلا الجريمتين.
         ونحن نؤيد الطرح الذي سلكه المشرع المغربي، والذي يجعلنا نؤمن بأنه يمكن معاقبة الجاني على كلا الجريمتين، فإنه يتم إعمال مبدأ هام ألا وهو مبدأ عدم محاكمة الجاني عن فعل واحد مرتين، وذلك طبقا للمادة 118 من القانون الجنائي المغربي بشأن التعدد المعنوي، وبالتالي توقيع عقوبة الجريمة الأشد في هذه الحالة، على اعتبار أن لا مجال لقياس وضع مخفي الأشياء المسروقة على وضع الغاسل، فإذا كان فاعل السرقة لا يعاقب على الإخفاء فلان ذلك مرجعه أن نشاط الإخفاء يعتبر مكملا للنشاط الأصلي المتمثل في السرقة، وذلك على عكس جريمة غسل الأموال، فالجريمة الأولية لا تستوجب حتما غسل الأموال المتحصل عنها. فالمشرع لا يعاقب على مجرد السلوك المادي المتمثل في اكتساب المال، وإنما يتطلب نتيجة معينة هي إخفاء المال أو تمويه طبيعته أو مصدره أو مكانه أو صاحبه أو صاحب الحق فيه، أو تغيير حقيقته أو الحيلولة دون اكتشاف ذلك أو عرقلة التوصل إلى شخص من ارتكب الجريمة المتحصل عنها المال.

المطلب الثاني: الركن المادي
من القواعد المعروفة في القانون الجنائي أنه لا جريمة بدون ركن مادي، هذا الأخير يتحقق بالاعتداء الملموس والواقعي على المصلحة المحمية قانونا، وبه تتحقق الأعمال التنفيذية للجريمة، وبهذا فالقانون لا يعاقب على مجرد النوايا والأحاسيس أو على مجرد اعتناق أفكار مهما كانت شاذة وخطيرة، إن هي ظلت كامنة في ضمير صاحبها واحتوتها نفسيته ودخيلته دون أن تتخذ لها مظهرا في العالم الخارجي في صورة نشاط مادي-إيجابي أو سلبي- يجرمه المشرع الجنائي في نص من النصوص صراحة(
ويتكون الركن المادي من عناصر لا بد من توفرها، وهي السلوك والنتيجة الإجرامية، ثم العلاقة السببية التي تربط بين السلوك والنتيجة، وفي هذا الإطار فقد نص المشرع المغربي على مجموعة من الصور التي يتحقق بها الركن المادي لجريمة غسيل الأموال والمنصوص عليها في المادة 1/574 قانون رقم 43.05 المتعلق بمكافحة غسيل الأموال.
الفقرة الأولى: السلوك المادي
نص المشرع المغربي في القانون 43.05 في مادته 1/574 على أنه: «
-      تكون الأفعال التالية جريمة غسل الأموال عندما يرتكب عمدا؛
-      اكتساب أو حيازة أو استعمال أو استبدال أو تحويل الممتلكات بهدف إخفاء؛ أو تمويه مصدرها، لفائدة الفاعل أو لفائدة الغير.
-      عندما تكون متحصلة من إحدى الجرائم المنصوص عليها في الفصل 2/574 بعده؛
-      مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في الفصل 2/574 بعده على الإفلات من الآثار التي يرتبها القانون على أفعاله؛
-      تسهيل التبرير الكاذب، بأية وسيلة من الوسائل لمصدر ممتلكات أو عائدات مرتكب إحدى الجرائم المشار إليها في الفصل 2/574 بعده التي حصل بواسطتها على ربح مباشر أو غير مباشر؛
-      تقديم المساعدة أو المشورة في عملية حراسة أو توظيف أو إخفاء أو استبدال أو تحويل العائدات المتحصل عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من ارتكاب إحدى الجرائم المذكورة في الفصل 2/574 بعده...»(.
ومن هنا يتبين لنا أن الركن المادي لجريمة غسيل الأموال يتجلى في الأفعال المرتكبة بهدف تمويه مصدر العائدات والممتلكات الناتجة من الجرائم المحددة على سبيل الحصر في الفصل 2/574 ق. 43.05، وفي أعمال المساعدة المرتكبة بهدف مساعدة أي شخص متورط في ارتكاب الجرائم المذكورة. وقد توسع المشرع المغربي في الأفعال المكونة للفعل المادي عندما استعمل عبارة "تسهيل التبرير الكاذب" التي تعتبر عبارة فضفاضة تشمل عدة أفعال(.
 و أدخل أيضـا ضمن الأفعـال المـادية تقديم المسـاعدة أو المشـورة في عملية حـراسة أو توظيـف أو إخفـاء أو استبدال أو تحويل العائدات المتحصل عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من ارتكاب إحدى الجرائم المحددة حصرا في الفصل 2/574، وبالتالي فالمشرع المغربي خرج عن القواعد المنصوص عليها في الفصلين 128 و 129 ق.ج. و توسع في نطاق الأفعال التي تدخل في إطار المشاركة في الجريمة، مع العلم أنها في الأصل تدخل ضمن أعمال المشاركة المنصوص عليها في الفصل 129 ق.ج والمعاقب عليها أيضا بنفس العقوبة المقررة للجريمة الأصلية طبقا للفصل 130 ق.ج.
وإذا كان المشرع المغربي استعمل عبارة فضفاضة فإن المشرع المصري حدد أنماط النشاط المادي في جريمة غسيل الأموال في المادة 1/ب من قانون مكافحة غسل الأموال 80 لسنة 2002 و ذلك على سبيل الحصر بقوله : « كل سلوك ينطوي على اكتساب أموال أو حيازتها أو التصرف فيهـا أو إداراتها أو حفظها أو استبدالها أو إيداعها أو ضمانها أو استثمارها أو نقلها أو تحويلهـا أو التلاعب في قيمتها إذا كانت متحصلة من جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة الثانية من هذا القانون»، وبالتالي يمكن حصر صور السلوك المادي في: الاكتساب، الحيازة، التصرف، الادارة، الحفظ، الاستبدال، الإيداع، الضمان، الاستثمار، النقل، التحويل، التلاعب في القيمة(.
 أما المشرع الفرنسي فقد نص على مظهرين للسلوك: الأول هو تمويه مصدر الأموال أو الدخول غير المشروعة والتبرير الكاذب لمصدر الأموال أو الدخول المتحصلة من جناية أو جنحة، بالإضافة إلى المساعدة في عمليات إيداع أو إخفاء أو تحويل العائد المباشر أو الغير المباشر من جناية أو جنحة. 
و في ما يخص محل جريمة غسيل الأموال في القانون المغربي، فقد تناولته المادة الأولى من القانون 43.05 المتعلق بمكافحة غسيل الأموال، حيث عرفت "العائدات" بأنها جميع الممتلكات المتحصلة بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة من ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في الفصل 2/574 من ق.ج. كما عرفت "الممتلكات" بأنها جميع أنواع الأملاك المادية أو غير المادية، المنقولة أو العقارية المملوكة لشخص واحد أو المشاعة، و كذا العقود القانونية، أو الوثائق التي تثبت ملكية هذه الممتلكات أو الحقوق المرتبطة بها.
وبذلك يلاحظ أن المشرع المغربي حصر محل جريمة غسيل الأموال في "العــائدات" و عرفها تعريفا موسعا وفضفاضا يسمح بإدخال جميع الأملاك سواء كانت مادية أو غير مادية (المادة الأولى فقرة الثانية).
في حين أخذ المشرع المصري بالتعريف الموسع، حيث عرف في المادة الأولى "الفقرة أ" الأموال بأنها « العملة الوطنية والعملات الأجنبية والأوراق المالية والأوراق التجارية وكل ذي قيمة من عقار أو منقول مادي أو معنوي وجميع الحقوق المتعلقة بأي منها والصكوك والمحررات المثبتة لأي منها». أما المتحصلات حسب المادة الأولى/د: فهي « الأموال الناتجة أو العائد بطريق مباشر أو غير مباشر من ارتكاب أي جريمة من الجرائم المنصوص عليها في المادة الثانية من هذا القانون».
وهكذا نلاحظ أن التعريف الذي أعطاه المشرع المصري للمال موسع، بحيث يمكن أن يشمل كل ما يتحصل من جريمة من الجرائم التي حددها المشرع، سواء تم الحصول عليه بطريق مباشر أو غير مباشر، كما أنه لا عبرة بطبيعة هذه الأموال سـواء كانت ماديـة أو غير مادية أو عقارية أو منقولات().  
أما المشرع الفرنسي فقد استعمل في المادة 324/1 من القانون العقوبات الفرنسي مصطلح "الأموال أو الدخول" "Biens ou revenus" لمرتكب جناية أو جنحة، بينما أشارت الفقرة 324/2 إلى لفظ "العائد المباشر أو غير المباشر" مستـعملة تعبيـر "رؤوس الأمـوال" أو "الأصول". والإختلاف في الصياغة لا ينفي توحد معناها وهو المال المتحصل من مصدر غير مشروع في كافة صوره وفي سائر الأشكال التي يندمج أو يتحول إليها أو يتبدل على شاكلتها(، ومن تم لم يشترط القانون الفرنسي أن يكون محل النشاط الإجرامي في جريمة الغسل متحصلا من الجريمة الأصلية، وإنما يكفي أن يكون متحصلا عليه من جناية أو جنحة ولو كان بطريق غير مباشر، وبذلك يختلف موقف القانونين المصري والمغربي عن القانون الفرنسي حينما اشترطا أن يكون المال أو العائدات محل الغسل متحصل عليه من إحدى الجرائم التي حدداها، خلافا للمشرع الفرنسي الذي اكتفى بأن يكون المال لمرتكب الجناية أو الجنحة ولو لم يكن متحصلا منها.
الفقرة الثانية: النتيجة الإجرامية
النتيجة الإجرامية هي الأثر المترتب عن نشاط الجاني (إيجابًا أو سلبًا) في مدلوله المادي الذي يظهر في التغيير الذي يحدث في العالم الخارجي كأثر ملازم لهذا النشاط(. والنتيجة لا تكون عنصرا من عناصر الركن المادي في الجريمة إلا بالنسبة لجرائم "النتيجـة"  أو جرائم "الضرر" أو الجرائم المادية(دون الجرائم التي يطلق عليها جرائم "الخطر" أو الجرائم "الشكلية" التي لا يتوقف قيامها والمعاقبة عليها على حدوث نتيجة(.
ولمعرفة النتيجة الإجرامية في جريمة غسيل الأموال، فإنه يتوجب معرفة ما إذا كانت هذه الأخيرة من جرائم الضرر أو الخطر اعتمادا على طبيعة الضرر الذي يلحق بالمعتدى عليه.
فبالنسبة للمشرع المغربي، يتفق مع المشرع المصري، كونهما يعتبران أن جريمة غسيل الأموال من الجرائم ذات النتيجة المادية التي تتطلب تحقق نتيجة بذاتها، وهي إحداث التغيير على جوهر المال المتحصل من الجريمة الأصلية أو الأولية سـواء كـان ذلك بـالإخـفـاء، أو التمويه،  بمعنى أن النتيجة هي تطهير أموال لم يكن بالإمكان التعامل فيها إلا من خلال إضفاء صفة المشروعية عليها، بسبب أنها كانت ناتجة عن عمل غير مشروع، بعد مرورها بعدة عمليات معقدة). أما المشرع الفرنسي فإنه لم يشترط تحقق نتيجة معينة بذاتها، وإنما جرم
السلوك بحد ذاته، و بذلك نكون أمام جرائم "شكلية"(.

الفقرة الثالثة: العلاقة السببية
العنصر الثالث في الركن المادي للجريمة هو ضرورة توافر العلاقة السببية بين النشاط المحظور والنتيجة التي حصلت، بحيث لا يمكن تصور قيام جريمة قانونا إذا انتفت الرابطة السببية()
فهذه الأخيرة  في علاقة بجريمة غسيل الأموال تتوفر بارتباط سلوك إجرامي انصب على مال غير مشروع متحصل عليه من إحدى الجرائم المنصوص عليها في المادة 2/574 من قانون 43.05 (وكذا القانون المصري والفرنسي)، بالنتيجة الجرمية التي توخاها الجاني والمتمثلة في تمويه أو إخفاء المصدر غير المشروع للممتلكات أو اكتسـابهــا، أو حيازتهـا أو استعمالها أو استبدالها أو تحويلها.

المطلب الثالث: الركن المعنوي
يتضمن الركن المعنوي العناصر النفسية للجريمة، ويعني ذلك أن الجريمة ليست كيانا ماديا صرفا قوامه الفعل المادي وآثاره بل إنها كذلك كيانا نفسيا، وهذا الركن هو سبيل المشرع إلى تحديد المسؤول عن الجريمة، بحيث لا يسأل شخص عن الجريمة ما لم تكن هناك علاقة بين ماديات الجريمة ونفسية الجاني، والركن المعنوي يأخذ صورتين: الأولى هي القصد الجنائي ومن خلالها توصف الجريمة بأنها عمدية، والثانية تتحقق في صورة الخطأ إما بسبب رعونة أو إهمال، ومن هنا توصف الجريمة بأنها غير عمدية.
من خلال ما سبق، يتبين لنا أن جريمة غسيل الأموال هي من الجرائم العمدية التي يلزم فيها أن تتوافر عند الجاني قصد نحو العناصر المفترضة والمادية معا للجريمة، وتعني أن يكون للجاني القصد الجنائي للقيام بفعل التمويه لأموال متحصل عليها من جريمة أولية، إذ من المستحيل وقوعها بطريق الخطأ أو الإهمال.
ونظرا لطبيعة جرائم غسيل الأموال باعتبارها جرائم مركبة من جريمتين، فما هو القصد الجنائي المطلوب لقيامها؟ (الفقرة الأولى) وما هي خصوصية هذا القصد في جرائم غسيل الأموال؟ (الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: القصد الجنائي المطلوب
         من خلال تفحصنا للقوانين المتعلقة بجريمة غسيل الأمـوال، يمكن أن نلحـظ شكلين أو نوعين من تطلب العمد لوقوع جريمة غسيل الأموال، الأول صريح، والثاني ضمني.
فالنوع الصريح، معبر عنه في العديد من التشريعات، منها المشرع الكويتي في المادة الثانية من القانون رقم 35 لسنة 2002، الذي ينص على توفر العلم بعناصر الركنين المفترض والمادي، وأيضا المشرع المصري نص في المادة الأولى، الفقرة ب من القانون رقم 80 لسنة 2002 باستعماله مصطلح القصد صراحة  "... متى كان القصد من هذا السلوك..."، وهذا ما نهجه المشرع المغربي أيضا في قانون رقم 43.05 لسنة 2007، حيث استعمل في الفصل 574/1 عبارة العمد "تكون الأفعال التالية جريمة غسل الأموال عندما يرتكب عمدا".
وهذا الاتجاه أي سياسة النص الصريح على القصد الجنائي، يساير توجه اتفاقية فيينا التي نصت في المادة الثالثة على أن العمد هو فحوى الركن المعنوي، وتطلب العلم بشكل صريح بالعناصر المادية للجريمة.
إلا أن هناك استثناء نصت عليه بعض القوانين كالقانون الكويتي والمصري والمغربي يتمثل بتقرير مسؤولية المؤسسات المالية غير العمدية عن التمويه، مادام أن هذا التمويه قد وقع بسبب الإخلال أو الإهمال بواجب إلتزام الرقابة المفروضة عليها، وبالتالي نكون أمام جريمة غير عمدية بعيدة عن جريمة غسيل الأموال، والتي لا تقبل إلا إذا وقعت عمدا.
و سلك المشرع الفرنسي النوع الضمني، رغم عدم تطرقه للركن المعنوي (المادة 324/1 من قانون الجنائي الفرنسي) مؤكدًا على ضرورة تطلب العمد في هذه الجريمة، باستلزام وقوع كل الجنايات والجنح عمدا دون الحاجة إلى النص عليه في كل جريمة على حدة، وهذا يعني بمفهوم المخالفة أن النص على الركن المعنوي لا يوجد إلا إذا كانت الجريمة من جرائم الإهمال أو الخطأ، وهذا ما كرسته المـادة 121/3 من القانون الجنائي الفرنسي بنصها على أنه " لا توجد جناية أو جنحة دون توافر القصد على ارتكابها".
والحديث عن القصد الجنائي المطلوب في جرائم غسيل الأموال يجرنا للحديث عن نوعي القصد الجنائي: فهناك قصد جنائي عام أو قصد عام وخاص، والأصل أن الاكتفاء بصورة العمد العامة دون التطرق إلى نية إضافية بشكل صريح يفيد القول بأن مراد المشرع من القصد المطلوب لاكتمال الركن المعنوي هو توافر القصد العام دون الحاجة إلى القصد الخاص.
فبالرجوع لموقف المشرع المصري، نجده ينص على القصد العام والقصد الخاص، والذي يتوافر في حالة إذا كان الغاسل قد قصد من نشاط إخـفـاء المـال أو تمويه طبـيعـته أو مصدره أو مكانه أو صاحب الحق فيه وتغيير حقيقته أو الحيلولة دون اكتشاف ذلــــك،  أو عرقلة التوصل إلى أي شخص من ارتكب الجريمة الأولية.  
فالمشرع المغربي نص في الفصل 574/1 ق. 43.05 على أن "فعل اكتسـاب أو حيازة أو استعمال أو استبدال أو تحويل الممتلكات بهدف إخفاء أو تمويه مصدرها، لفائدة الغير" وبهذا لا يكفي أن يعلم مقترف هذه الأفعال الجرمية بكون الأموال التي اكتسبها أو يحوزها أو يستعملها أو يقوم باستبدالها أو نقلها هي أموال غير مشروعة، بل ينبغي أن يكون هدفه هو تمويه أو إخفاء مصدرها غير المشروع، ولم يشترط توافر القصد الجنائي الخاص إلا في هذه الحالة، وذلك على غرار اتفاقية فيينا. أما في الحالات الأخرى المنصوص عليها في نفس الفصل، فيكتفي فيها بالقصد العام، على عكس قانون مكافحة غسل الأموال المصري الذي اشترط ضرورة ثبوت قصد جنائي خاص في جميع صور النشاط الإجرامي (المذكورة أعلاه).
أما المشرع الفرنسي، فهو أيضا يتطلب توفر علم الجاني بأن المال موضوع الجريمة متحصل عن نشاط إجرامي معين وأن يكون الجاني على علم بأن ما يقوم به من أفعال تتجلى في إخفاء مصدر هذا المال، أو ينطوي على تعامل فيه، وبذلك يكون القانون الفرنسي قد اشترط القصد الجنائي العام والخاص.

الفقرة الثانية: خصوصية القصد الجنائي
تتجلى هذه الخصوصية، في الوقت الذي يجب أن يتوافر فيه العلم بعدم مشروعية المال المكون لجريمة غسل الأموال، ولتحديد هذا الوقت يجب الرجوع بالضرورة لطبيعة جريمة غسل الأموال، التي تم تحديدها سابقا- هل هي جريمة وقتية أم جريمة مستمرة؟ فإذا ما سلمنا بأنها جريمة مستمرة، فإنه لا يشترط توفر العلم لحظة ارتكاب السلوك المادي المكون للجريمة، بل يكفي توافر العلم بمصدر المال غير المشروع في أي لحظة تالية على ارتكاب السلوك المادي للجريمة.
أما إذا كانت جريمة وقتية، فإنه يتعين توافر العلم بحقيقة المال محل الغسل لحظة ارتكاب السلوك المادي لهذه الجريمة. ومن ثم ينتفي الركن المعنوي إذا توافر العلم بالمصدر غير المشروع للمال عقب ارتكاب السلوك المادي).
 و بالرجوع للمادة الثانية من القانون غسيل الأموال المصري، نجد أنه اعتبرها ثارة جريمة مستمرة وثارة جريمة وقتية. بالنسبة للحالة الاولى تتجلى في حيازة الأموال ذات المصدر غير المشروع أو التصرف فيها أو إدارتها أو حفظهـا أو ضمانهـا أو استثمارهـا، وعندئـذ لا يشترط توافر العلم بالمصدر غير المشروع للمال لحظة ارتكاب السلوك المادي المعاقب عليه.
غير أن الحالة الثانية فهي على نقيض الحالة الأولى، التي يتمثل سلوكها المادي في نقل الأموال أو تحويلها، خصوصا إذا علمنا أن استخدام التقنيات الحديثة يساعد على ارتكاب السلوك المادي في لحظة وجيزة، وبهذا ففي هاتين الحالتين أي النقل والتحويل للمال يتعين تزامن العلم بالمصدر غير المشروع للمال مع لحظة ارتكاب السلوك المادي.
في حين المشرع الفرنسي، نجده يميز في المادة 324-1 من ق.ج.ف بين صورة تسهيل التبرير الكاذب لأصل الأموال أو الدخول، وفي هذه الصورة يتطلب توافر القصد الجنائي العام. وبهذا يجب أن يكون الغاسل عالما بأن الأموال ترجع لشخص أو أشخـاص ارتكبـوا جنايـة أو جنحة وإن كان لا يشترط توافر العلم لديه بأن هذه الأموال مصدرها الإجرامي()، وبين الصورة التي تقوم على المساهمة في عملية التوظيف أو الإخفاء. فهي تتطلب قصدا جنائيا خاصا، بتوافر العلم لدى الغاسل بأن المال محل الغسل ناتج بطريق مباشر أو غير مباشر عن جريمة تعد جناية أو جنحة(.
فبالرجوع إلى القانون المغربي يلاحظ أنه كرس من خلال المادة 1-574 من ق.43.05  الركن المادي عند استعماله مصطلحات للدلالة على هذا الركن: «اكتساب أو حيازة أو استعـمال أو استبدال أو تحويل الممتلكات، تسهيل التبرير الكاذب» ومنه يمكننا التمييز بين ثلاث صور، فالأولى تتجلى في الاكتساب أو الحيازة أو الاستعمال، وفي هذه الحالة تكون جريمة مستمرة وبالتالي لا يشترط العلم بالمصدر غير المشروع للمال وقت ارتكاب السلوك المادي.
أما الصورة الثانية فتتمثل في الاستبدال أو التحويل. وفي هذه الحالة تكون جريمة مؤقتة، وبالتالي يتعين تزامن العلم غير الشروع للمال مع لحظة ارتكاب السلوك المادي.
أما الصورة الثالثة والمتمثلة في تسهيل التبرير الكاذب، فإنه يتعين أن يوافر العلم بالأموال المحصل عليها من الجرائم المنصوص عليها في المادة 2-574 من ق.43.05

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

جرائم الإيذاء العمدي

النظريات المفسرة للسلوك الاجرامي

علاقة علم العقاب بباقي فروع العلوم الجنائية الأخرى